top of page
شعار مداد.png

أربعة عشر عاماً من الحنين


بعد أسبوعٍ مرهق قضيته عاكفة على إنجاز بحثي الأخير في الجامعة ، لم أشعر بنفسي إلا وقد غالبني النعاس ، فتحت عيني على ترانيم النشيد الوطني لبلادي، ولا أحد يعلم كيف يفعل النشيد الوطني في قلب مغترب.

- ماذا هناك يا أبي ما الذي جرى؟

- ما بك هل نسيت يا هالة؟ الاستقرار لا يمحو الغربة قالها معاتباً.

- كان وقعها علي كغصة حين تذوقتها شعرت بحدة الموت.

جلست في صمت عاتبة على نفسي، أخذ أبي كعادته كل عام يروي لي تفاصيل ذلك اليوم المشؤوم، اللحظة التي كان خلاصنا فيها هو إدارة ظهورنا للوطن، حين هربنا منه بكل ما نملك من خوف، وأمل، وشك، ويقين.

خرجنا مجردين من كل ما نملك إلا حبه المغروس فينا ودموعنا التي فاضت حنيناً له قبل مغادرته.


عدت إلى غرفتي مثقلة بالآلام، حتى أني نسيت تسليم أبي دعوة حفل تخرجي بل نسيت لحظة فرحي قبل قليل.

- أين أنتِ يا أمي؟ لقد زاد ألم رحيلك غربتي غربة.

لقد كبرت طفلتك يا أمي وهي لم تنسك يوماً.


أتذكر ذلك اليوم جيداً، صورة الحطام مرسومة في ذهني وأنهار الدماء لا تغيب عن بالي، خرجنا ليلاً على صوت المدافع والرصاص متجهين إلى ما كنا نراه شاطئ النجاة، كنت يومها في الثامنة من عمري ( طفلة تخشى الظلام ) لكنها رأت من الدنيا ما لا يطيقه الكبار.


ركبنا قوارب الموت فجراً قبل أن تنقشع السحب وتطل علينا الشمس بقرصها.

ارتعدتُ خوفاً وبرداً، مرت علينا أيام حتى ظننت أننا في قلب بحر لا شاطئ له، رأيتُ أمي تذبل أمامي وبريقُ عينيها يبهت يوماً بعد يوم، كانت تتظاهر حينها بالقوة، تربت على كتفي، ترسم لي مستقبلاً غير موجود حتى في الأحلام.

محمد ( هالة يا محمد ) هذا آخر ما سمعته منها، فاضت روحها إلى بارئها، وأسلمتُ روحي لزنزانة من الصمت بعدها، وباتت غصة العمر.


اليوم هو الخامس من شهر نوفمبر، أتممت أربعة عشر عاماً بعيداً عن الحياة، أعيش أيامي بروحٍ غائبة بشوقٍ وحنين لذلك الوطن الكبير الذي لا أذكر منه إلا القليل، وطني الذي يزداد حنيني له بحديث أبي عن عظمته وجماله، عن قوته وصموده وحريته، عن أرواح أهله الشامخة ونفوسهم الكريمة، عن طفولته في أريافه، عن التقاء الأرواح مع الأحبة، عن صباحات العيد المختلفة، عن رائحة الخبز المنتشرة في الآفاق مع نسمات الصباح، عن الكثير والكثير حتى تخيلت أنه جنة بل هو حقاً جنة في عيون أبنائه، لكنه لم يحظ بالسلام يوماً.


السلام الذي يتحدث عنه الجميع ولم نره، السلام الذي قضت الكثير من الأرواح نحبها في سبيله.

صورة عن الجمال رسمها أبي مختلفة عما أذكر، عما يراه العالم، إنه ينظر للوطن بنظرته هو.


تمنيت لو باستطاعتي فعل شيء أكبر مما فعلت، أن أخلق سلاماً أوزعه على كل أرض تنزف في هذا العالم، ألا أرى أطفالاً تتوجع ، وأباء يبكون فلذات أكبادهم، وشباباً خسروا من عمرهم أجمله، ألا يكون في العالم قلبٌ يتألم، ولا يعيش إنسانٌ في غير وطنه، وألا أموت وحيدةً في غربة.


أسماء الزهراني



١٥ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل

مشاعر

bottom of page