top of page
شعار مداد.png

أشباح النفوس

دعوني أنسجُ خيوطَ الشَّمسِ وأُسَامِرُ الليلَ وحدي، دعوني أرقبُ الفضاءَ برحبِه وأناغمُ الأشجارَ بأغاريدِ العصافيرِ وحدي، دعوني أُناشِدُ دمعي وأُنادِمُ عيني بسرِّها الشَّجيّ وحدي، دعوني وشَأني..!


إنَّها بداياتُ تشرين التي تُعِيدني إلى عالمِ الأحزان، كم مرَّةٍ قلتُ هذا العام (سأكونُ مختلفًا) لكنّني لم أستطع! كم مرَّةٍ حاربتُ نفسِي وخلقتُ الأفراحَ حولي مُشعِلةً الشموعَ مع الأحبابِ؛ لأسلَى ولكنَّني ناقضتُ نفسِي!


ها أولُ يومٍ من تشرين تمضِي ساعاتُه بكلِّ ثقل، أتنقّلُ في المنزلِ كضائعٍ لا يعرفُ طريقَه، هربتُ منه إلى جانبِ الكرسيِّ الأحمرِ في حديقةٍ كبُرَتْ فيها طفولتي، أسترجعُ ذكرياتِ زمنٍ قد مضى بعالمِه البريءِ الجميل، بدأتُ أَرثي ذاكَ الزَّمنَ بدموعٍ تسابقَتْ على مقلتي، وبلهفةٍ عانقَتْ صدري أعادَت روحَ الطّفولةِ بداخلي.


بدأتُ أتأمَّلُ ملامحَ الغرباءِ مُصغِيةً إلى لحنِ العصافيرِ في لحظةِ الغروبِ بكلِّ إخلاصٍ وتأنِّي، أحاولُ نسيانَ أشباح النّفوسِ الذين استفتحوا مطلعَ مراهقتي فسَلبُوا هُوَّيتي، وأَخذُوا حقوقِي، وأَعدمُوا إبداعاتي وهواياتي الفَريدة، وقتلوا جميعَ مميزاتي! أتساءَلُ والبحرُ يلطمُ أمواجَه.. أمَا يَحقّ لهم أن يُسحَقُوا من هذا الوجود؟ ألا عدلًا ينصِفُ حقوقَ أرواحِنَا فيلمّ انكساراتِ آمالِنَا؟ فتُجيبني الأمواجُ بسرعةِ فيضانِها عليّ، ويخدعني الليلُ ببغتةِ برودِهِ وكآبةِ سوادِه ليعيدَني إلى البيتِ وحدي كما ذهبت.


إنَّ أشباحَ النّفوسِ كُثُر، طغَوا على العالمِ بما فيه حتى أنّني حين أتصفَّحُ مواقعَ التَّواصلِ الاجتماعيّ أرى سوءَ ألفاظِهم البذيئةِ المليئةِ بالوقاحةِ لمختلفِ أعمارِ ونوعيّات البشر، أرى سذاجةَ عقولٍ لم تنضج بالرّغمِ من تقدّمِ العمرِ وكَسبِ المنصبِ وحُسنِ الحسبِ والنَّسب!


لقد كنتُ في الرَّابعةِ عشر من عمري، أتمتّعُ بصحةٍ بدينةٍ غرامُها الحلوياتِ بأنواعِها وأطباقِها الشَّهيَّة، مرحةً أداعبُ إخوتي في طريقِنَا إلى المدرسةِ كلَّ صباح، ينتابني فضولٌ فضيعٌ حول العلم يشدّني إلى الفصلِ بهدوءٍ وحماس فإذ بأشباحِ النّفوس يتصدَّرون مكانِي بوجوهٍ تكادُ تغشَى من الضّحكِ متلفظة بألفاظٍ تطعَنُ قلبي: أمَا رأيتَ نفسَك في المرآةِ قبل قدومِكَ إلى المدرسة؟ يا لبشاعةِ المنظر! اذهب إلى الخلفِ فالأذكياء هم مَن يتصدَّرون الأمكِنَة..!


بدأَ تشرينُ ينتصفُ، واقتربَ موعدُ إشعالِ الشّموعِ؛ لأُصبِحَ في الثّامنةِ والعشرينَ من عمرِي، أُردِّدُ هذه المرّةَ مقولةَ (دان بيرس): "كلّما كرهنا أنفسَنا، كلّما أردنا أن يُعاني الآخرون" وبعدها أُكرِّرُ قولي كعادةِ هذه اللحظةِ في كلِّ عام.. (سأكونُ مختلفًا)!


جواهر الرشيد




١٧ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل

مشاعر

Comments


bottom of page