top of page
شعار مداد.png

إراقة حلم

يتأرجح بين ماضيه وحاضره تأرجُحَ البِندول، فتبدأُ معه في كل اهتزازةٍ قصة، تحرك خيطُ بندولٍ بفعلِ دفعةٍ بسيطة من حُسام، بلا أدنى اهتمام أثناءَ دخولهِ منزله، استمر الخيط يتمايل يمنةً ويسرة، اعتقد يومًا أن البندول هو أبسطُ فكرةٍ تمثل الزمن، والحياة، وأن لكل حركةٍ معنى، إذ يرمز اندفاعُ الخيطِ نحو اليسار إلى لحظةٍ في الماضي، فصار على البِندول أن يتحرك للأبد دون توقف، تأمله حتى غفتْ عينيه في اللحظة التي يميلُ فيها الخيطُ يسارًا.


رن منبهُ هاتفه، فاستيقظ فزعًا من كابوسه كمن اعتاد مشاهدة موته للمرة الألف؛ فمذ قراءته لتلك الأسطورة لم ينفك عن رؤيتها في أحلامه، حتى أيقن أنها مصيره، فقرر ألا يحضر المناسبات متجنبًا تحقق رؤياه.


تفقَّد رسائله، فوجد دعوة من صديقه المقرب:

"أدعوكَ يوم الثلاثاء لحضورِ حفل زفاف ابني الوحيد، حُسام.

سميُّك الصغير كبُر، وأرجو ألَّا يمنعكَ أمرٌ من الحضورِ".


ظل يفكر في الأمر، رغم يقينه أنه لن يزج بنفسه في هذه التجمعات مهما حدث، لكنها دعوة من صديق عمره، الذي سانده في أيامهِ المريرة، وسيعني له الكثير لو حضر.

أغمض عينيه حائرًا، حتى خطر على باله مفسِّر الأحلام، فاتصل ليخبره عن حلمه الغريب:


"نُشر خبر عن بناء أضخم قلعة لاستضافة الحاكم مأدبة لانتصاره على طليبرة، ورأيتُ أحدهم يدخل صالة الوليمة كغيرهِ المدعوين ليَهُّم بطحن الطعام، ويبدو أنه قد جوّع نفسه لما يقارب يومين استعدادًا لهذا الحدث العظيم.

ارتفع صوت الموسيقا، وتلألأت أعين الحشد عند وصولهم وسال لعابهم من ترف الطعام والشراب، فأصبحوا يرتادون بجشعٍ غير مكتفين، وكأنهم في سُعار، وحُشروا متكدسين فوق بعضهم على المائدة، حتى مُلئت بطونهم، وغلبتهم التخمة، ورقصوا ببطون ممتلئة فرحين بهذا النعيم، لكنهم أرادوا مكانا ذا سعة ليستريحوا فيه، فقيل لهم عن بابٍ يفضي إلى كل ما تتمناه أنفسهم وتتوق إليه أعينهم.


فقلَّ الحشد تدرجيًا، حتى حان دوري مع ثُلّة من الناس، حيثُ أُخذنا إلى ممر طويل تفوح منه رائحة جِيَف، ويعلو فيه صوتُ ليس كموسيقا قاعةِ الطعام، بل طبلٌ مُختلف، وعند وصولنا إذا ببوابة ضخمة، وفي أسفلها باب معقول الطول، يتسع لدخول شخص، فأُدخِلنا واحدًا تلو الآخر.


وحين أتى دوري حُجبت عن عينيّ الرؤية، لكني أسمع أصواتًا غريبة بوضوح، كانت مناداة استغاثة، وصيحات ألم، فعلمت من حسيس النيران والصرخات الموجعة أنهم يُشيَّعون، تمنيت لو توقف نبض قلبي من هول ما شعرته، وأردت أن أموت بسلام، لا متخومَ البطن خاملَ الذهن عاجزًا عن الحركة.

رُفع الغطاء عن عينيّ، وليته لم يُرفع، فأضواء المكان كانت كافية لجلب الغثيان والصرع، ما تصورته في مخيلتي كان أهون بكثير، فقد شُيّع بهم في حفرة عمقها كارتفاع القلعة، ومن شدة صرخاتهم فقدت حاسة السمع لبرهة، ولم أعد أدرك ما الذي يجري حولي، حتى سُحبت مع جندي إلى نفس المصير، وفجأةً نودي عليه بصوت صافرة، فغفل عني للحظة، عندها دفعتني رجليّ لأحتمي من الموت وأختبئ بعيدًا في الخلف.


ثم اختلست النظر من بعيد، فإذا بهم يمشون مع دق الطبل بتنظيم مشبوه، فتسللت بخفية، ولحظة وصولي إلى الباب أخيرًا، إذا بيد تجذبني من شعري، ومع صوت الطبول أخذ الجنود يجرونني مع صرخاتي وتوسلاتي، فأدخلوني المكان نفسه، وفي حفرة النيران المتطايرة أرى جسدي يهوي، محملقًا فيهم وهم يقهقهون بطغيان متلذذين بهذه المجزرة، فاستفقتُ بعدها على صوت المنبه".


أخبرني المفسِّر أنها ليست سِوى أضغاثُ أحلام وعلي ألَّا ألتفت لها، وإلا سأجدُ نفسي في موقف يثير الشفقة، وسأعجز عن إيقاف سيلها، طمأنني أنني أستطيعُ كتابة هذا الحلم بالزعفرانِ ثم آخذهُ معي أينما ذهبت، وإن توجست، فما عليَّ سوى حلِّ الورقة في قنينةِ ماء لكي تتبدد مخاوفك، فاتبعت نصيحته.

***

قبل احتفال الزفافْ كنتُ مستغرقًا في التجهيزات لحُسامين، أنا وابن صديقي، ولم أنسَ ورقة الحلم المكتوبة بالزعفران، وارتديتُ أبهى ثيابي، رغم أنه بدا مهترئًا بعض الشيء.


وصلت إلى قاعة الاحتفال، وبدت رؤيتي ضبابية، وملأ العرق جبيني وباطن يدي، رأيت ماءً فشربت منه ومكثت في زاويةٍ بعيدة متحاشيًا الحشد، والصخب مستمر، الكل يتحرك، وينادي، ويسلم، يا الله كم مرَّ يومٌ منذ آخر مرة سلمتُ فيها على ناس! ارتفع صوتُ الموسيقا أكثر، والأطعمة على الطاولة التي أمامي تزيد، انهمكت في الأكل، واحتساء القهوة.


تبدو الاحتفالات مبهجة، لأن كلَّ شيءٍ فيها في وضعهِ المثالي! الأصدقاء حاضرون، والغرباءُ يبتسمون في وجه كل من يرون، والأطعمة تقدم، وكل ما لذ وطاب أمامك، إنها اللحظة الحالية التي يقفُ فيها البندول ثابتًا في المنتصف.

صاحَ أحدُ الحضور، وارتفع صوته في حديثه مع من يجلس بجواره، التفتُ فزعًا ظانًا أنه كان يحاول إنذار الموجودين! لكنه لم يكن إلَّا حديثا عاديا.

شعرتُ وكأن قلبي ينقبض، إذ علا صوتُ طبل! نعم طبل! كطبلِ القلعةِ.

لم يكن أمامي بندول لأتحقق من مكانه، أهوَ في الحاضرِ أم في الماضي، ولكنني أشعرُ وكأنَّ شيئًا ما حركَ عقارب الساعة، إذ لم أعد أميز ما أرى فقد تشوشت الرؤية لدي، وتداخلت مع ما أراه في أحلامي، لا بد أن لفحةَ هواءٍ حركت البندول لليسار، لأن صوت الطبولِ صار أعلى، شعرت أنّ حضوري يشل الحركة في المكان، فبعضهم يراقبني بتوجس لا يطمئنون لي، ولا أطمئن لهم، ويبادر رجالٌ دخلوا توًا بالسلام، أرد بالمثل دون مصافحة، وأعدُّ الحاضرين حتى دوى صوت أخرج قلبي من جوفه، ومن خلفي سماعات كانت تنقل قرع الطبول، فهرعت بعيدًا عن القلعة (صالة الزفاف) أطبقت السماء على الأرض، وبينهما ألهث، وأترنح بحثا عن مخرج، وجدت بابًا موصدًا، فحاولتُ فتحه بقوة، وغرست قدميَّ في الأرض، أدفعه كفأر عالق بمصيدة إلى أن انفتح، ارتطم جسدي على الأرض، نهضتُ إلى السطح هاربًا من الحاضرين بعيدًا عن هذا الاحتفال الدموي، كما في كوابيسي.

انتكس الحال إلى الأسوأ، وتسارع نبض قلبي، وتعرق جسدي، وخيل لي أن الطريق لا ينتهي، فبدأتُ أذيب الورقةَ في الماءِ وسرعان ما اصفرّ لونها شربتها كما أوصاني المفسِّر، وفجأةً لمحتُ ظلَّ رجلٍ، حدق فيَّ مُقتربًا، ورغم أن شفتيه كانتا تتحركان، إلا أنني لم أعِ ما يقول، فخشيتُ تحقق رؤياي، وفي هذه الأثناء شعرت بيدٍ تسحبني من خلفي، ارتعشت يداي وجُنّ جنوني! وبدأتُ بالصراخ "لن أكون التالي، لن تعذبوني" فاستجمعتُ قواي، وأمسكتُ بصاحب اليد، ودفعته من أعلى السطح، فهوى جسده إلى القاع، واختلطت أعصابه بدمائه..


بدأ تنفسه يتسارع شهيقا وزفيرا، محدقًا بجثة صديقه الملقاة في كومة القمامة التي كانت نهاية أعز شخص له، قبض على حافة السور، وحملق في الخط الأسود الذي يسيل على طول الطريق، فنشج حتى العويل.. ولحق به.


الشيماء آل فائع

أروى آل يوسف

نجود السبيعي



١٢٤ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل
مشاعر

مشاعر

Commentaires


تم الأشتراك في القائمة البريدية

  • Twitter

جميع الحقوق محفوظة لمبادرة "مِدَاد" 2020

bottom of page