top of page
شعار مداد.png

إنني مريضة

صمتت الدنيا في اللحظةِ التي تكلمت، شيءٌ أعتى من احتمال الإنسان حدث، الصمم والتظاهرُ به أمام الأشياء، السيلان الذي تُسمع قطرته الأخيرة، نعم، تُسمع الكلمات، هي تسمع، ولكنها تسمع الصمت. أين كان صدى الصوت الأخير؟ وإلى أي بقعةٍ وصل الصوت؟ لا تعرف.

مؤلمٌ أن تداري الوقت.

الزمنٌ الذي تلتقطُ فيه نفسك، وتصرخ، فلا تسمعُ صداك، تلتقي بالصوتِ فيك، ويضيع الصوتُ خارجًا، يبقى معلقًا في الهواء.

متى كان كل هذا؟ بل هذه الانتفاضةُ متى بدأت؟ ومن هم هؤلاءِ من حولي؟ أسألهم، ولا أسمع ردًا منهم، يجيبون ولا يصلون إلي، تتحركُ أفواههم، أراها، وتبقى أصواتهم معلقةً في الهواء.

تعودُ الأصواتُ شيئًا فشيئًا، من داخلي أنا، من شدتها تتضاءل، بين صوتِ نداءٍ وسكوتٍ يبدأ الصداعُ، لتكتمل لحظات التوعك.

إنني مريضةٌ.

شفاه الناسِ حولي تتحرك، كلماتهم معلقةٌ في الهواء، لكنها تصل، تمكنت من أن أسمعهم الآن.

في اليوم الرابع لي هنا، على السرير الأبيض، والعيادةِ الأصغر من أي شيءٍ رأيته من قبل، ما زال جسدي يؤلمني، والحرارةُ تسري فيه، كأنما يدافع عني، عن نفسهِ من دخيلٍ محتمل.

حان وقتُ الغداء، ولا أحد هنا غيري، كل الأصواتِ التي أحاطتني اختفت، سقطت قطعةٌ على الأرض، وبينما التقطها صاحبها كان الصوت ما قبل الأخير الذي أنصتُ إليه، بعدها استمعتُ لكل شيء، أنا أشعر بتحسن، ولكنني ما زلت، لم أنتهِ من هذا المرض، ولم ينتهِ مني، وضعتُ باقي الطعام مكانه، بعد ساعاتٍ نمت.

****

أهلًا أيتها الزائرة.

قدمتِ إلى هنا قبل عشرةِ أيام، وكنت أراقبك، كان جسدك ينتفض ويتألم، لم يكن بوسعي فعلُ شيءٍ لك، ولا بأبسط الأشياء، فأنا اعتدتُ أن أكون أبعد ما يمكن لعلاجِ شيء، لكنني بقيتُ معكِ في الكلمة المنطوقةِ أو المكتوبة، كلاهما سيَّان فأنا أعرفُ ما تودين قوله، كيف لا وأنا التي سبقتكُ لهذا المكان؟ ثقي بي، الناس هنا يقدِمون أشباه موتى، ثم يعودون ليتخذوا أماكنهم في الحياة، لكنني من بينهم قررتُ أن أبقى، في هذا المكان حيث يجيءُ الآخرون ويرحلون، لأكون ملاذًا لكل جسدٍ ينتفض، لنفسه أو لروحه.

قبل أن أعرف عن مرضك ظننت أنكِ مودعة، وأنا أخشى الوداع، كان جلُّ ما أتمنى أن تبقي بخير، ألَّا تتفاقم عليكِ الحرارة، وأن تتوازني، كنتِ تتكلمين معي وكأنك تفهمين، وتستمعين إلى قصتي وكأنك أنا، في مكانٍ ما، وفي لحظةٍ ما، لذا فإنني بدأتُ أجمع الأزهار التي ستزينُ السرير، والتي ظننتِ أنه قبرٌ، كلماتك المتقاطعة قالته، التي صرتُ أفهم معانيها.. بناءً على طلبكِ في اليوم الرابع، الذي كُنتِ تنظرين نحو العالم كما وأنكِ تعرفين كل شيءٍ هنا، وأنت مغيبةٌ عن الوعي، وتتكلمين كأنكِ بخير، وكأن جسدك لم يذق شيئًا من تعب. أحضرتُ لك الطعام، وكل ما تشتهي نفسكِ، أنا التي تنفذُ دائمًا، ثم نمتِ، وطلبتِ مني أن أنصرف.

منذ جئتُ هنا وأنا أرى غيرك يمرض بنفس الداءِ هذا، كلهم يستيقظون في اليوم العاشر وكأنهم أفاقوا إلى حياةٍ جديدة، أو ربما زادوا يومين أو نقصوها، لا يهم، كل ما يسعني قوله أنكِ ستتخلصين قريبًا منه، إلى الأبد، وستكونين أفضل، أعلمُ أن الأمر محزن، أن يعيش الإنسان لحظاتٍ من الألم المتفاقم، لكن المواساة أنه مهما كان يشقى ويكابدُ، وتصيبه الأمراض، كذلك يُشفى، وتعود إليه الحياة.

وددتُ أن أخبرك أنني استبشرتُ عندما تأكدتُ تمامًا أن كل من يصاب بمرضك سيكوِّن مناعةً ضده مدى الحياة، تصوري أن تلك الآلام هي الأخيرة؟ لن تتكرر مجددًا، حتى وإن عاد، فوطأته ستكون أقل، حتمًا.

عرفتُ هذا بعدما بدأت التحقق في الأمر، أسألُ الطاقم الطبي، والعيادات، وسجلات المرضى عن أشباهك، عن احتماليةِ عودتك؟

عشرةُ أيام، ثم يستقرُّ كل شيء، مدةٌ كافية، لموت هجومٍ يشن على الجسد، فتتداعى له بقيةُ الأعضاء وتتألم، سأنتظر حتى أراكِ تعودين إلى الحياة..

لا تسأليني عني، سأخبرك.

أنا التي أحببتُ كل الناس، وآمل أن يصل صوتي إلى القلبِ. منذ تلك اللحظةِ التي أدركتُ فيها أن الحياة أقصر، وأن حصرها في شيءٍ واحد يعني الهلاك، وأن عليَّ أن أعيش في دائرةِ المحبة للعالمِ أجمع.

الآن صرتُ بمحبتكم أتداوى، فمنذ قررتُ الموت، من نفسي الأولى، تلكَ التي تستسلم للمرض صرتُ التي أمامك، قررت العيش في المستشفى هنا، حيث أرواحُ المتعبين، والمتألمين، والراحلين، والعائدين إلى الحياةِ مثلك، أراقبكم جميعًا وأدعو لكم.

فلتنتبهي لنفسكِ جيدًا، وتذكري أنها دورةٌ وانتهت، ولا شيء يبقى، حتى الألم والتعب، أحببتكِ جدًا، وجاء اليوم الذي تقرئين فيه هذه الرسالة، أو لعلك سمعتيها يومًا من الأيام العشرةِ التي أسهرها بقربك.

الشيماء آل فائع


 
 

Comments


تم الأشتراك في القائمة البريدية

  • Twitter

جميع الحقوق محفوظة لمبادرة "مِدَاد" 2020

bottom of page