لازالت الشمس تزحف بجيوشها لترد بقيّة الظلام، جيوش لا كفاء لها؛ أشعة الشمس تعيد رسم الأشياء؛ تُبْرِزها بعدما واراها الظلام بجناحه وطمس ملامحها. تهزُّ أيادي الصبح كل شيء ليشرقَ، أكثر الأشياء تحتجبُ عن الضياء هاربةً: إما بالسبات أو بحصن مظلم منيع حتى حين.
يسبغ الصمت عطاءه على غُرَفٍ مبنية من نور؛ جدرانها من زجاج شفاف يسمح بتخلل الأشعة وإلقاءَ نفسها نحو أروقةٍ اشتعلَ سطحها شيبا؛ أروقة تجمع بين نصوع بلاطها وانعكاس بياض النور.
داخل تلك الغُرف مكاتبٌ مصفوفة عن اليمين، وأخرى مبثوثة عن اليسار. نبات "البوتس" يتسلق بهدوء على حافة مكتب خشبي، مكتب عليه أوراق منظّمة بعناية؛ كأن المكان خاوٍ على عروشه ولكن...
صوتٌ يتحدث بنبرة مبحوحة:
-ألا ترى أن المكاتب لها لون لا يناسب طبيعة عمل الشركة؟
-كذلك.
-وما رأيك بتصميم الشركة؟ أليس كان بالإمكان أن يكون...
يقاطعه:
- لا يبدو جميلا ولكنه غير قبيح إطلاقا.
يسكتُ سالم لثوانٍ، ثم يحدّق طويلا بيديّ عثمان وهي لا تكل ولا تمل من العمل ثم يقول:
- أووه، تذكرت ألم تسمع بقوانين العمل الجديدة، تبدو صارمة قاسية أليس كذلك؟
- لم أسمع.
يرتّب عثمان أوراقه بالملفات ويأخذها للجهة الأخرى من المكتب، يقترب إليه سالم محاذيا، ملقيًا عليه قولا ثقيلا:
-أليس الوباء مصيبة؟ ألم يرحل بعد؟ وقد...
يطفو الصمت على الموقف، لكن عثمان يَغرقُ في حديث نفسه: "بل أنت الكارثة التي لم ترحل، ولعلك ترحل قريبا!"، ثم ينشغل عنه بختم الأوراق المعنية متحاشيًا النظر إليه.
سالم:
كم علينا لننتظر حتى يزول الوباء؟ أليس قرار رئيس البلدية في التدابير عظيما؟
يقول عثمان غاضبا بصوتٍ عالٍ:
من أين تجئ السلامة وحتى الذين يحملون اسم السلامة لا يعرفون مبدأها؟؟
يقول سالم ببلاهة غير مصطنعة:
- لا أدري ما تعني.
- أعني لمّ لا تجعلني أنهي الملفات... أنا لم آتِي للشركة مبكرا لأسمع نشرة إخبارية!!
- متى سمعتها؟
أتعرف...
يتعجب عثمان من غباوته بعقد حاجبيه، يتأوه، ويحدّقه بعينين أرقتين ثم يزيد إيضاحا دون مجاملة:
- ألا يجب عليك أن تصمت لأنهي عملي؟؟ -آهَا، هكذا، سأسكت... سأسكت لكنك لم تجب...
- لا أعرف حسنا! ولا أريد أن أعرف. اصمت الآن!
يخرج سالم من المكتب وهو يتلفت كأنه يبحث عن شيء ضيّعه، ولا يرى نفسه المُضيّعة. غير أنه وجد ما يصبو إليه؛ عامل المدير يمسح مكاتب الموظفين، يأتي إليه مسرعا بفرح...
"مرحبا أيها العامل المجتهد، لم أعرف اسمك منذ أن توظفتُ هنا..."
-أمين.
-آمين؟ أنا لم أدع لك ولا عليك.
-اسمي أمين.
-تقول "أمين"، آه، هذا اسمٌ لا يُؤمن صاحبه. ذهب الصدق من الناس وبالناس؛ الاسم لا يعني نفسه في هذا الزمان، بل ربما يعني الضد. أنا أدعى سالم؛ سالم سليم من السلامة، كما قيل...
-.....
يرى سالم العامل يكمل مسح أسطح شبه نظيفة ولا يأبه بأن ينظر إليه. ينصرف عنه نحو عثمان المنهمك في عمله: يحفظ الملفات في الخزائن، يصنفها، يرتبها، ويخرج العقود المنتهية. يباغت عثمان صوتٌ لم يشأ أن يسمعه قط؛ فهو بشير السوء ونذير الخسران:
"ألا تشعر بأنك أنهكت نفسك؟"
"بل إني أفكر أن غيري أنهكني."
"من هذا الغير؟"
"لا يهم، اتركني وحدي!"
يتحدث سالم بالبعيد والقريب، وفي المهم والسخيف، وعثمان يراجع سجلات الموظفين، يحاول استجماع قواه العقلية وهو يسمع دبيبَ كلامٍ ليس له طائل؛ لا يُفيد صاحبه أحدا به، ولا يستفيد صاحبه منه. يحاول عثمان إبداء انزعاجه أكثر، لكن الثرثار لا يهدأ له بالا حتى يفضي بكل الذي داخله؛ الصالح والطالح منه. هذه المرة يرفع كفيه إلى أذنيه ويضغط بهما بشدة.
يبدو أن سالم فهمه أخيرا، ينظر عثمان باختلاس يمينا ويُرجع بصره على ما اشتغل به فيقول: "رحل سريعا، الحمـ..." لم يكمل حواره النفسي إلا ويرى أن سالم يقف من على يساره وهو صامت وقد ألصق وجهه، ذا الملامح المبغَضة القبيحة، بوجه عثمان، واقترب أكثر بجسده وهو يقول بخوف زاد قبح ملامحه: "أذهب بك إلى الطبيب؟ أذناك.. توجعاك"
قال عثمان بعد أن استفزه حُمق صاحبه:
"بل أنت الذي أوجعتني، هلّا وجدت لك عملا تعمله؟؟ قطع الله لسان الثرثارين اللصوص"
"اللصوص؟!"
"اخرج، سرقت وقتي ووقتك، إن لم يكن للوقت قيمة عندك فهو لدي قيمة واستثمارا"
"أنا أعتذر أنا آسف لم أقصد، أحسب أنني كنت..."
فأخذ يسرد خِطاب الاعتذار نصف ساعة أخرى ليكمل نهبَّ ما ابتدأ به!
عائشة الريس
Kommentarer