صوتٌ يمشي مع خطِ الزمان
ممتدٌ، واسعٌ، داخلٌ في كل التفاصيل، لهُ لمحةٌ من كلِ أشكالِ الحياة، المواساة، الحكمة، وحتى لونُ السماءِ، المموّهُ بطيفٍ من رُقَعٍ بيضاءَ تظنها شوائب، وهي في الحقيقةِ عبقٌ بشكل ما، متماشيةً بخفةٍ مع أساسِها الأزرقِ الموّحد، وكأنَّ تلكَ الغيومِ ضيفٌ عجولٌ خجول. هكذا كانت بُحَّاتُ صوتِها، تُخِلُّ بتوازنِ نبرتِها بعجالة، تظنّها للوهلةِ الأولى خللا، لكني أعرفُ الآنَ أنها ليست إلا تعتيقاً، ذاك التعتيقُ الذي يضفي على الشيءِ قيمته.
حجرُ العقيق، هو صوتك، قديمٌ ويثمّن حاضرنا، يجمّلنا، يبهجنا، تهفو قلوبنا عند ضياعه؛ لأن من ذا يساوي قيمته؟
من ذا يساوي قيمته؟ و هوَ الأساسُ الذي تُقاس عليه كلُ القيَم، والقلبُ الصغيرُ الممتلىء بالعواطف، والحضورُ الثقيلُ الذي يعلن بدءَ المأدبةِ في كلِ مرة.
يحرّكُ ذاك الصوتُ فيّ المشاعرَ والشجون، ويصرُّ ذاكَ الصوتُ على تذكيري في كلِ لحظةٍ بأهميةِ وجوده، عن طريقِ إلحاحهِ بالوجودِ في رأسين يقصّ علي القصصَ العذبة، ويضحكني بالنكاتِ المجنونة، ويُكثر من سردِ التفاصيلِ على أُذُنيّ!
يرى الناس تلكً الصورةً لفتاةٍ في انشغالٍ فضيعٍ، ووسط أوراقِ الأبحاثِ والمهامِ التي تناديها مستعجلةً إياها؛ وهي تضحكُ! يتعجّبون! لا تنتبه لهم، لأن ذاكَ الصوتُ الهني يدغدها بكلمةٍ طريفةٍ خاطفةٍ لتساعدَ هذه الفتاةَ المسكينةَ على الصمودِ، لتصمدُ فعلا!
ويرى الناسُ تلكَ الصورةَ لفتاةٍ في لحظةِ تكريمها؛ جاهشةً ببكاءِ الفاجعة! يتعجبون! لا تنتبه لهم، لأن اللحظةَ التي التفتتْ فيها لتضمَ ذاكَ الصوتَ الصديقَ بالأحضانِ ثم لم تجده ماثلاً بجسدِ صاحبهِ أمامَها؛ كانت بمثابةِ لحظةِ الوقوعِ في الفُوهة، هي في الواقعِ لحظةُ إدراكِ الخسارةِ التي لطالما ظنت بأنها وهماً.
هذا العقيقُ، الذي يركضُ الناسُ لأعسرِ التضاريسِ من أجلِ اكتشافه، يحبُ التخفّي، ويحبُ الوجودَ في الوقت ذاتِه! لن يرضى العقيقُ بالتسليمِ بوجودهِ تحتَ الترابِ والأرضِ، وبالمقابل لن يرضى بكريمِ الوجودِ بين من يودونه.
لم تبدُ ليَ الحياةُ يوماً متداخلةً أشكالُها ومترابطةً معطياتُها كما بدا ليَ اليوم، بعدما أضعتُ الوجودَ الحيَّ لذلكَ الصوتَ العقيقي، يُخَيَّلُ لي شكلٌ للصوتِ على الخشب، والنبات، و الفراغِ و الأوجه.
لم يبدُ لي الصوتُ يوماً صلباً، له وزنٌ وحضورٌ كما بدا ليَ اليوم، بعد أن قِستَ حجمَ المكانِ الذي أصبحَ فارغاً في حياتي بعد أن انتزعتْ مني ذلكَ الصوت.
أتلمسُ العقيق، أتأمله وأودُّ لو تأملني، أراهُ حِسّكَ الذي تخفّى؛ فقط تخفّى ولم يغِب، يخالجني شعورٌ بأن جمود العقيقِ بين أصابعي مع أنَّ مشاعري في أشدِّ انكشافِها أمامَه؛ هي صدٌ منكِ. لم يقنعني الزمانُ يا حبيبتي أن ذلكَ الصوتُ ليس بإمكانهِ البقاءُ صامداً أمامَ كلِ التقلبات؛ كالعقيق، لم يُخَيَّلْ ليَ أن ذلكَ الصوتُ هو صوتٌ بشري؛ ينقطع، ويفنى.
بقلم الكاتبة: رغد النغيمشي
للاستماع:
Comments