top of page
شعار مداد.png

المسافات



اليوم هو موعد سفر عائلة طالب يدرس خارج مدينته، بعد أن قضوا معه أيام الإجازة التي انصرمت بسرعة؛ ولن يستطيع أن يراهم قبل أن ينهي اختباراته النهائية آخر العام الدراسي. وفي مكان آخر وظرف آخر كان أب يعول عائلته، قد استعد للمغادرة بسيارته نحو مدينه عمله؛ ليؤمن لعائلته أسباب العيش الرغيد، وفي مكان آخر وفي نفس التوقيت ودّعت الأم أبناءها الخمسة المرتبطين بأعمالهم، ومقرّات دراستهم البعيدة؛ لتقضي أيامها في منزلها الخاوي على إيقاع عقارب الساعة الذي يذكرها بالوحدة. وجدٌّ يمكث في حجرته على أمل أن تزوره بناته اللاتي ينشغلن بتدريس أبنائهن حتى نهاية الأسبوع، يقضي وقته كميت بين الأحياء من فرط تشابه أيامه. فكرتُ لو أن لنا أن نقلّص هذه المسافات. حاورتُ صديقةً: ألم يبلغ التقدم العلمي والتكنولوجي مرحلةً يُبتكر فيها ما يشفي الإنسان من داء المسافات بينه وبين أحبابه، ويقلص فيها مسببات الأسى وإراقة الدموع؟ عزمنا معًا على البحث عن حل لهذا الألم الذي يعتصر قلوب كل هؤلاء البشر مع تجدد أسباب الرحيل، والفراق، في عصر يمكن أن نتجاوز فيه هذا النوع من الحزن. اختلقنا مخطَّطًا لآلة تشبه الطائرة، تحلّق بركابها بسرعة الضوء، وحرصنا أن تكون مركّبة من قطع بتكلفة في متناول يد محدودي الدخل، وبدأنا بعد ذلك رحلة التجارب والتأكد من سلامة المنتج، واختبار قابليته للطرح في الأسواق. وبعد أن ارتشفنا القهوة مع صديقة تقطن في الجانب الآخر من الكرة الأرضية في غضون ١٥ دقيقة بلا تذاكر أو جوازات عبور، فسلّيناها بالصحبة، وخففنا عنها وطأة اللحظة، وعدنا خلال ١٥ دقيقة أخرى سعيدتين بهذا اللقاء المفاجئ لها حدّ البكاء. حاولنا تسويق المنتج الذي نجح في منح الإنسان القدرة المطلقة على الاجتماع بأحبته في ساعات يومه مرة أو اثنتين دون أن يضطر لانتظار موعد إجازة أو طلب أخرى. ثم تفاوضنا مع إحدى الشركات الكبرى المهتمة بالحلول التقنية الإبداعية لتسهيل الحياة اليومية، بعد أن توصلت إلينا عن طريق المواد التسويقية، وطلبت منا عينة لتجربة المنتج، وبعد أن شرب المدير كأسًا من الشاي مع صديق قديم في دولة تبعد مئات الكيلومترات، ابتاع منا هذا الاختراع بمبلغ يقارب ١٠٠ مليون دولار، بنينا به أنا وصديقتي بيتًا في كل مدينة يقطن بها أحبابنا وصحبتنا. وبعد ٥ سنوات لم يعد هنالك من يبكي من الفراق، وأصبحت الأجيال الجديدة تعدّه من نسج حكايات التراث الشعبية التي لا نفهم اليوم كيف كانت تُحكى في زمن ما!


دلال المبارك

١٢ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل
مشاعر

مشاعر

コメント


تم الأشتراك في القائمة البريدية

  • Twitter

جميع الحقوق محفوظة لمبادرة "مِدَاد" 2020

bottom of page