يأتي الليل فيخلعُ عنه ثوبَ المحبةِ العقلُ، لأنه يعلم بندمي المتحتِّم إن أنا أحببت الليل فسهرت وتهدّم عليًّ بناء اليوم، لأنَّ من حسن نومُه حسن يومُه.
لكنني لم أعلم بذلك المعنى حين كنتُ جهولاً، فقلت له (أي للعقل):
ما لك تحول بيني وبين الليل، تفسد علاقتنا كما يفسد الشيطان بين المرء وزوجه؟
دعني أكمل ما بدأت به من متابعةُ ما أنتجته قرائحُ المخرجين في عبقريّات القرن الواحد والعشرين، ألا ترى اندماجي بمتابعة الفلم؟
العقل: ولكني أعلم أنك ستندم غداً حين تترنَّح ذاهباً إلى الدوام، كل جورب بلون، والشعرات تبدو من قبعتك لعجلتك عن النظر في المرآة قبل الخروج...إلخ
ثم ستتسرب طاقتك في الدوام، كبالون مفقود الهواء، هل يطير؟ لا يطير.
فأنصحك أن تقطع علاقتك بالليل، فلا تناجيه بأغانيك المطربة كأنّه حبيبك، ولا تسامره بالقصائد كأنه نديمك، بل اعتبره عدوّك اللدود، هل يصادَق العدو -في غير اضطرار-؟
وإلّا تفعل يكن ندمٌ كبير.
ولكن أيها العقل الكبير ألا تعلم بأنَّ:
النومُ طيفٌ يُلِمّ، لا قرارٌ يُتّخذ
لذا لا معنى لقولك: "رح نم"
وكم هي بطيئة وثقيلة تلك اللحظات التي تتناومُ فيها علّك تسلم القِياد للأحلام
ثم تكون لا أنت الذي انتفعت بوقتك، ولا أنت الذي استرحت!
لو ثمَّ "زر" للنوم، وبرمجة للجسد بأن يصحو بعد توقيت محدد... لُكنّا في الجنّة أيها الأحمق!
صديقي يقول لي: "لو ثم قدرة سحرية واحد تتحقق لي في هذه الحياة، لاخترتُ الاستغناء عن النوم!"
يريدُ بفضوله أن يعيش الحياة مضاعفة، ليستكشف كل ما فيها...
ولكن ليس النومُ راحةً للجسد فقط، بل هو صفاءٌ للذهن، وتجليةٌ للهموم... لكن سيجدُ صديقي حتماً طريقاً آخر لهذه المزايا إن أوتي تلك القدرة الخارقة.
في صغري لم أكن من أرباب السهر، بل كان النومُ يغلب علي في أمتع اللحظات فلا أملكُ له دفعاً، لكن بواعث الخواطر كانت قليلةً إذ ذاك، ليس كما الآن.
إنْ طالمَا أردتُ أن أكون ذاك الشخص الذي ينام بُعيد "الأخير" ثم يقوم أول فجره، فيصلّي ثم يتلو أذكاره ثم يقبل على الحياة بقوة، فيصفو الذهن، ويستريح القلب، وينشطُ للحركةِ الجسد... ولكن تأبى الحياة المعاصرة بفعالياتها
لا أرى الليلَ إلا كئيباً "يرتجلُ الهموم وتشتكي فيه الجراح"
هل هو إلا ثقبٌ أسودُ يجذب الألوان من قلوبنا؟
هو فوّهة العَدَم، وطريق المجهول
لا لستُ أريد المُضيّ فيه كأنني أعمى، وقد أوتيتُ بصراً بهِ أتبيّن المسالك أن تلتوي بي فأضِلّ أو أزلّ!
مالي ولليل؟ وما أنا بالعاشقِ الوَلِه، ولا اللاهي الراقص، ولا العابد الزاهد
إنْ ليلي إلا ملاحقةُ بعوضة شاردة تثأرُ لأختها التي دُعست بالأمس، وأختُها تثأرُ لأمها، في سلسلةٍ طويلة، وهلّمّ شرّا!
أو تأملٌ بائسٌ في هذا الظلام الجاثم على صدر المدينة، التي يخيّلُ لي أنها تستجدي الصباح ليدفع عنها هذا البلاء الثقيل، الذي يزن الأطنان من الهموم والمتاعب!
لم ننامُ الليل؟ أليس هروباً من كآبة منظره؟ وإسراعاً إلى ما بعده؟ هل رأيتَ من يعرض عن ضيفٍ خفيفٍ مُبهِج؟ إلا من سَفِهَ عقلَه.
لذا تحيةٌ للصباح من قلبٍ مختنق بدخان الليل الكاتم
ثم أيها الطيفُ المُريح، أما آنَ لك أن تُلِمّ؟
العقل: حسناً حسناً.
عبد الرحمن الشنقيطي
Comments