بزغ قمر القرن التاسع عشر مكتملا واكتسح بنوره ثلج المدينة، إنها ليلة بلورية تليق بنييويورك ، أرى الهواء الساخن يحارب الصقيع بأبخرته المنبعثة من البنايات ، تأخرت عن والدتي وتأخر الوقت أيضاً لصبيّ يكدح ليكسب لقمة العيش مثلي ، فلا عربات ستقلني في منتصف الليل ، وصلت الى نهاية الطريق ، كم أكره هذا الزقاق المظلم ، لولا وجود مصباح باهت بمنتصفه لما عبرت ، إنه الطريق الأسرع يجب أن أتشجع ، بدأت خطواتي تتسابقي مع أنفاسي خوفاً ، لا أعلم لم شعور بأن هنالك شخص خلفي يلازمني دوماً ، ولطالما أجهل حقيقة ذلك الشعور ، التفتُّ مرتعداً ، يبدو بأن الشتاء القارس قد لامسني ، أو بالأصح يبدو بأن البرد خيّل لي موتي الآن ، إنه رداء الليل يدندن بقلب القمر المكتمل ، إنها نهايتي ..
صباح مختلف تسللت إلي رسالته مع بزوغ الشمس ، إنه الوقت المخيف لاستلام البرقية ، صحتُ بمدبرة المنزل أن تخبر أتباعي بأن يحضروا عربتي ، هناك من ينتظرني ، ارتديت معطفي الأسود والفراء تعتلي ياقتي ، تناولت عصاي بقفازي الأسود ، ومشيت بسرعة ، إنه عقلي يخبرني بأنه آن الآوان ، عربة متشبثة بالأحصنة بالخارج ، بداخلها رفيقي ، وما إن ركبت حتى قال :
-هل أقول صباح الخير د.لازلو أم صباح الجريمة الشنيعة التي أجبرت على رسمها بالفجر لك ؟ أرأيت البرقية ؟
- لايهمني ماحصل لك جون ، الأهم بأنني سألقاه أخيراً .
-لا أعلم متى ستكف عن التعجرف ولا أعتقد بأن ذلك سيحدث ..
تبادلت النظرات معه بابتسامة بسيطة قد تعبر بها شكري لحضور رسام مثله لا علاقة له في الجرائم بسببي ، وأبحرت في تفكيري .
توقف العربة أمام مركز الشرطة كان كفيل في قطع حبل افكاري ، حشد متكوم من الصحافيين ، يستقبلنا ، نعم أنا على وشك مقابلته ، سرت بينهم والاسئلة لا تكاد أن تفك عن التوقف : طبيب نفسي سيقابله ، هل لك علاقة بالقاتل ؟ د.لازلو غير مرحب بك في المركز فلماذا أنت هنا ؟ والعديد من الاسئلة ، فبالطبع رجال الشرطة لايؤمنوا بعلم الطب النفسي الذي شققت طريقي اليه ولن اقف حتى أحصل على غايتي ، دخلنا المركز لتستقبلنا صديقتنا الأخرى المفوضة سارة هاوود بحدتها :
-لقد عقدت اتفاقاً وستتم مقابلتكم له لمدة عشر دقائق وهذه أقصى مدة قبل محاكمته .
انفعل جون لأشير بيدي له وأقول : لا بأس ، إنه وقت كافي لي ، أشكرك آنسة هاوود على مابذلته .
توجهنا لأسفل المركز حيث الحبس الفردي ، حتى وقفنا أمام زنزانته ، وقع صوت المفتاح وصرير الباب بمثابة اشارة لي بانني على عتبة النهاية ، دلفنا لنرى رجل بملابس رثة في ركن الزنزانة يحدّق في الفراغ ، إنه في أواخر الثلاثينات ، ذو عينان باهتة غطّت لون حدقتاه الخضراوتان ، تقدمت بضع خطوات حتى جذبني جون من الخلف لأقف ، إنه يدندن بكلماتٍ ما ، بدأت الحديث قائلاً :
-هل أنت من فعلت كل هذه الجرائم ؟
لم يجب ، بل أكمل دندنته لأردف : لمَ اقتلعت قلوبهم ؟
توقف قليلاً ثم ضحك بصوت منخفض ليجيب : لن تدرك كم هو ممتع تلك النظرات الأخيرة لهم .
-كيف يكون ممتعاً ؟
أطرق رأسه ليرد بصوت غريب : ممتع قبل أن أقتلع قلوبهم .
-حتى آخر فتى في ليلة الأمس ؟
-إنه من أفضلهم ، لم أكف من سماع صياحه باسم والدته .
انفجر من خلفي جون قائلاً : إنك وحش ولن تسمح لك العدالة بأن تفلت من وحشيتك ، أيها السافل .
قهقه بصوت عال وأكمل يدندن ب : إنها ليلة المنتصف ، ليلة قلب القمر المكتمل ..
تبقت دقيقة على خروجنا ولم أصل بعد لتفسير هذا اللغز لأنطق : لم تفعل ذلك ، ماشعورك وأنت تفعل ذلك ، ماشعورك وقلب طفل بين يديك ؟
ليقف أمامي ويهمس بخفة : لن تفهم ذلك ابداً ..
لأشعر بقطرات تلامس وجهي ، تسمرت عياني وأنا أرى دماءه على جسدي ، كيف له أن يغرس تلك الاداة والابتسامة قد تملكت وجهه ، هرع الحراس لإيقافه لكن حتماً فات الآوان أمامي ، هرب من حكمه ومني ..
أبحرت ، في اللاشعور ، أمام لغز الجرائم ولغزه ، كيف للعالم أن يضم هذا الكم من الوحشية وهل هنالك أدهى من شر الإنسان .. شر العقل ..؟
يصعب علي تخيل الحياة بدون أمثاله .. فمدى تواجدهم قد أتاح لي التيه في طريق الحقيقة ..
هل فقدان الكمال في جزء منا هو مايتركنا لوحشيتنا ؟ أم أن الأنسان ووحشيته وجهان لعملة واحدة ؟
هل من الممكن أن تستيقظ لنا يوماً ما ..؟
إن الجهل ليقتلني وإن كمالي يكمن في علمي ويغنيني عن نقصي .. أعتقد بأنني سأكمل مسيرتي حتى أعثر على الجواب ..
طرفة عبدالرحمن
Comments