وبينما الشمس تغسل بالنور ضلع الجناح راحت تغلق النافذة، وتركت رأسها حرًا يستريح على حرف مكتبها ريثما تنتهي استراحة الموظفين.
طاف عقلها يستذكر أحداث الليلة الماضية وما حملته من وجعٍ أسخن عينهيا حتى اكتلأت بالسهر، أخذت تتقلب بين ماضٍ قد ولّى وندمٍ على ما كان في وسعها قوله، لولا أن تغشّاها الصمت فأضمرت حديثًا ظلّ فيها يحترق، أخذت تنازع نفسها على أن تتخفف بالكلام مع من تراه جديرًا بذلِك، لكن يد الحكمة غلبت واختارت أن تنسى ما حدث.
أثناء ذلك سمعت صوتًا رطيبًا لا يشبهه جرْس، رفعت رأسها تبحث عن مصدره، جالت بنظرها في أنحاء المكان، كانت متأكدة أنه خاليًا تماما لها، ثم رأت طائرها الذي يحمل لون النبيذ على أجنحته صُفرة يتناهض في قفص: "نعم إنه أنا".
توهّمت في عقلها خفّة حتى رجم ظنها بقوله: "أقدر حجم فزعك مما أتفوه به نظير كلامكم"، سحبت نفسًا كاد يذهب بها في شهقة، سكنت قليلاً ثم استجمعت رشدها وبرجفة سألت: "هل يمتلك الطائر لغة يفهمها الإنسان؟"
- "إني من سلالة هدهد سليمان منحني الله قدرة أن أفهم ما تقولين"
اعتدلت في الجلوس، واستدعت جوارحها تنصت بما أوتيت من دهشة، ليكمل ما بدأه: "منذ مجيئي وأنا أسرح فيك النظر، وأقرأ كل شعور تنساقين إليه حتى تردين الباب في وجهي وتعودين صباح كل يوم، أشعر أحيانا أنك استلفت أجنحتي في محاولة فاشلة للتحليق بها، لأبقى أرفرف بحثا عن هُوية لا أملك غيرها، بينما في وسعك أن تجدين قيمة تصنع معناك عوضا عن جناح زهيد"
لمست غضبا في كلامه فأحست بحاجة الدفاع عن فكرتها: "أظنك أخطأت بشأن وجودك هنا، وإن كنت أود حقاً أن أمتلك جناحاً كالذي في ظهرك؛ لكن في الحقيقة جمال رسمك هو ما قيدك عندي"
أجاب وفي صوته ضحكة مهزومة: "لطالما كان الجمال نسبيا، أعتقد أن في ذلك خير، فلو تشابهت الرؤى لما ظل في السماء طيراً إلا وقد حُط في قفص..
ولأن الشر لصيق بالإنسان، كان البعض يراني قبيحَا في فمي نايًا لا يتوقف عن إزعاجه فيُعرض عني أنا الجميل في وصفك".. شعرت أن الخوف فيها قد تراجع خطوة : "أتعني أن للشر كما للخير نفعا في هذا العالم؟"
أطرق يرتشف من صُحينة مائه قبل أن يجيب: "وحده الشر ما يمنحك حرية الاختيار، يجعلك مدفوعة للبحث عن خير لا تفوح منه رائحة الفساد، أما من اعتنق الأذى سبيلا فلن ينجو من عفونة إثمه حينما تصافحه يد الأيام"
- "وكيف يضيء الخير في قلب الإنسان ما دام يضمر خبايا سيئة في نفسه؟"
- "تصير أرضه بالخير مخضرّة؛ ما بقي يحاول رد الشر متمردًا عليه رغم قدرته على عناقه"
سقط القلم فأصابها الفزع، عمّ الهدوء، رن الهاتف، بعدما أمسكت به انبعثت منه رسالة صوتية..
(أهلا منار، وأخيراً وجدت أمراً يجعل عمر يفقد وظيفته بشكل نهائي، حينما تنتهين من عملك اتصلي بي..)
كانت اللحظة مختلفة، والحلم يتوارى خلف ستار الحقيقة، أخذت تسأل أيهما الصواب إلى أن ضاع الجواب، وطال الصمت حتى بدا واقفاً على أصابع الوقت، ثم رمش الطائر بجناحيه مغرداً، وبلمح حنون نظرت إليه، كأنما نسيت ما قد راعها منه، خشيت أن يشيع في حياتها الندم، ألا تحظى بالضياء وتعجز عن فعل الخير يوماً أمام عالَم يتورّم بالرماد.
مها الزامل
コメント