top of page
شعار مداد.png

صخب أحمر

ارتطمت طرقات الكعب المدوية على أرضية القصر، تمايلت سيدته بدلال وغرور على السجادة الحمراء وهي ترتدي فستانها الطرّز بحبّات اللؤلؤ الطبيعي الذي يحمل توقيع أرقى دور الأزياء، مدّت يديها بفظاظة معتادة نحو وصيفتها لتكمل مهمّتها في تزيين أظافرها.

بدأت الخادمة تطلي كل ظُفر باللون الأحمر الفاقع لسيدة ترى في هذا اللون القوة والبهجة والحضور الطاغي، وبينما هي منهمكة في عملها، سرحت في تلك البقة اللامعة البراقة التي تتزين بها أظفار الأميرة في قصر يعجّ بالحرس، ويرفل بسُدل الأمان، وامتزجت تلك البقعة في بركة من الدماء، في بلدها النائي، الذي اعتاد هطل القنابل، وصوت الرصاص، فما إن ارتدت الأرض فيه ثوبًا أبيض من ندفات الثلج، استبدلته بحلة حمراء داكنة تحمل نذير الموت بين جنبيها!


في لحظة سهو منها ودونما شعور أفلتت أنامُلها القنينةَ، فتهاوت قطرات من طلاء الأظافر الصاخب على حبّات اللؤلؤ المطرزة بدقة في ذيل الفستان الملكي؛ ارتعدت الخادمة وتراجعت خطوات للخلف، ونظرت إلى سيدتها باستعطاف، وهي تتمتم معتذرة عن الحماقة التي ارتكبتها.


دفعت سيدتها قنينة طلاء الأظافر على ثياب الخادمة، وقطبت جبينها، وزمّت شفتيها، ووجهها يتميّز غيظًا:

- ألا تعلمين أن اليوم هو موعد افتتاح مركز سلاح الجيش؟ وبكل حماقة تسكبين الطلاء على ثوبي باهض الثمن! ماذا سيقول الصحفيون عن إطلالتي التي أفسدتِها الليلة، يا إلهي!

-آسفة يا سيدتي، أؤكد أني لم أقصد!

-ستُحرمين من أجرك هذا الشهر؛ مع أن أجرك لا يساوي ربع قيمة هذا الفستان بل إن حياتك كلها أرخص منه. ويلَ لمن يرتكب مثل هذه الأخطاء، عندما يتعامل مع مقتنياتي الثمينة!


هرعَت تحاول إصلاح الأمر وهي تغالب دموع القهر من فقرها الذي اضطرها لبيع كرامتها لمن يشتري بماله السلاح الذي يموّل به القتلة في وطنها، بكت بحرقة دماءَ الضعفاء التي لا يغضب أحد لإراقتها كل يوم على سجادة بيضاء ناصعة من الأكفان التي تحكي شوق الموت للضعفاء وشراهته لدمائهم!


استدعت الأميرة كتيبة من الخدم البارعين في حل مشكلة عويصة جدًّا كهذه، ورفعت صوتها باشمئزاز بالغ:

أخرجوها من حُجرتي، فتاة وضيعة لا تتقن سوى ارتكاب الأخطاء الفادحة، ثم البكاء بدلًا من إصلاحها.


اتجهت بثقة إلى منصة المسرح ترفل بأناقة الأحمر في أصابعها المكلّلة بخواتم اللؤلؤ البرّاق إثر أضواء المكان؛ تلوّح بيديها بخفّة وهي تلقي خطابًا افتتاحيًّا بليغًا، يبارك إراقة الأحمر على بقعة أخرى لا تنتمي لموقعها من الخريطة -في احتفال مشهود- دون أن تعبأ -رغم إنسانيتها البالغة- بأرواح المسحوقين من البشر، الذين تستقبل أجسادهم الموت؛ الذي تدخره لهم الذخائر التي تغص بها مصانع التجار.


غادر الجميع الحفل دون أن ينتبه أحد منهم لتلك الأجساد البائسة التي تستقبل ذلك المنتج الفتّاك بأن تقدم له أرواحها، سوى الجنود الذين لا يفكرون إلا بالطريقة التي يذيقون أولئك فيها حتفهم، ورجال الأعمال الذين يفكرون بصناعة أقوى الأسلحة بأقل التكاليف؛ لبناء ثرواتهم الطائلة على رفات عظام الضعفاء، وخرائب منازلهم.


ارتدت أنحاء تلك البلاد التعيسة -التي لا تحتضن النبلاء ومصنّعي السلاح لسوء حظها- ثوبًا أحمر صارخًا في أناقته الدموية، لفرط بهائه وإتقانه أخذ بتلابيب برامج الأخبار العاجلة في المحطات التي تلهث خلف سبق صحفي. لم يأبه أحد إذا ما كان الذي انسكب طلاء أظافر أو دمًا؛ لم تزكم أنوفهم رائحة الموت التي تنتشر في كل مكان، فقد تلاشت أمام عبير عطورهم النفاثة.


دلال المبارك




٢٤ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل

مشاعر

Commentaires


bottom of page