في عمرٍ يافع
سعت صوفي لابتكار غرفة تبديل للمشاعر
رغم استعانتها بسحرها
إلا أن الأمر لم يكن يسيرًا البتّة
أخذ منها أيامًا
وشهورًا
وسنينَ عديدة
حتى شاب جزءٌ من شعرها
وأخيرًا
نجح اختراعها
قررت تجربته بنفسها
والدخول إلى ذلك العالم لترى إلى ما سيؤول عليه كلّ ذلك
أرادت لتلك المشاعر أن تختفي
لكنها ما عادت يافعة كما كانت،
لذا، كانت مشاعرها في تضاعف
لقد ازداد ما أرادت التخلص منه من مشاعر مع الأيام
حسمت أمرها ودخلت عبر ذلك الباب
الذي أعدتّ له طيلة سنين حياتها
لكن الأمر لم يبدو كما ظنت
كانت كالمغامرة
احتوت على شفراتٍ
أكثر تعقيدًا من سحرها
إمّا أن تجتاز أو تخسر وتعلق في هذه الدوامة للأبد
فكرت لوهلة لو أنها احتاجت وقتًا أكثر قليلا
وربما ما كان يجدر بها فعل ذلك الآن
لكن فات الأوان على التفكير بهذا
إنها في خضم هذه المغامرة
إما أن تجتازها
أو يُغلب على أمرها
-
ظهرت لها رسالة شفرة تأكيد
فإذا بها تبدأ
انجلت الأمور كما لو أنها في عمر شبابها
وإذا بمواقف حياتها تتكرر
إلا أنها لا تدرك أنها كذلك
وكأنها تعيشها للمرة الأولى
أي أنّ لا مجال لها لتتدارك الأخطاء أو تغيرها
كان مبدأ تلك المغامرة
أنها تعود لعيش حياتها شابةً يافعة -وكأنها للمرة الأولى-
مع قدرتها على التخلص من أي المشاعر في أي موقف أرادت
-
ابتدأ ذلك في المتجر الذي تعمل فيه
لتغطي تكاليف عيشها ولتمارس شغفها لتعلّم السحر
وفي ذلك اليوم
كانت تحيك كنزة بيضاء
غمرتها الحياكة شعورًا مطمئنًا مريحًا
وفي انغماسها بذلك
دخل عليها زبون في وقت متأخر ليلًا، قبل أن يغلقوا المتجر بنصف ساعة
خاطبها بالألمانية، وقد فهمت ما عنيه، فقد كان يستفسر إن كان لديهم خدمة مخصصة لحياكة الاسم على الكنزات
لكنها لم تجدها بما فيه الكفاية لتتحدث بطلاقة بها، فتلعثمت
وانتهى بها المطاف مجيبةً سؤاله بالعربية
فإذا به يرمقها بنظرة دونية
اشمئزت من ذلك الشعور، لا يحق له أن يتباهى بما لديه بهذه الطريقة، هي أيضًا تجيد الحياكة ولا يجيدها أي أحد، إلا أنها لم تتكبر بذلك.. لكنها لم ترد عليه فهو الزبون أولًا وآخرًا..
كان الزبون يحوم حول المتجر الصغير، لقد كانت حياكة صوفي متقنة، ولطيفة جدًا بألوان زاهية متنوعة، فإذا بالزبون يلتقط أحد قطعها ذات اللون الأرجواني، ويذهب نحو صوفي مرقها ورمى قِطعها عليها قائلًا: لا أعلم كيف عيّنك صاحب المحل هنا، يالها من ملابس بشعة!
وخرج ولم يأخذ شيئًا من المتجر..
لم تُرِدْ صوفي أن تبكِ، إلا أنه شهقاتها تتالت إلى أن بكت بصوت مرتفع، أحست بحرقة، إنها تعمل جاهدة في هذا المتجر دون جدوى، لم تجنِ ما يكفي من المال ليساعدها في تحقيق آمالها والمضي قدمًا لأهدافها، قلّما تحظَ بعشاء ليلًا، لقلّة المال لديها، كانت هزيلة، شاحبة اللون، ذات شعر بني طويل مجدل بظفائر تصل إلى منتصف ظهرها، بلباس أبيض دانتيل، له جيوب داخلية، لطالما أحبته، لقد أهداها إياه والدها لذا كانت ترتديه دائمًا..
إنها الحادية عشرة ليلًا يجب عليها أن تغلق المحل، وحينما همت بذلك، إذا بظرف معلّق على الباب، لم تره من قبل، كان مختومًا عليه شعار منارة، ترددت قليلًا في فتح الظرف، ثم فتحته فإذا بداخله مفتاح، مميز الصنع، ومنحوت عليه الشعار ذاته، وبه بطاقة ظنت أن بها كلامًا، ويا للغرابة لقد كانت فارغة لم يُكتب بها شيء، أو على الأقل هذا ما بدى لها.
استيقظت صباح اليوم التالي مع صوت زخات المطر المنهمرة باستمرار، استحمت ولبست سريعًا وذهبت للمتجر وبيدها قطعة خبز مُحلّى ومظلة صفراء، دخلت المتجر لتبدأ روتينها كما الأيام السابقة، إلا أنها دُهشت برؤية باب على الزاوية لم تره مسبقًا، رغم أنها تعمل هنا منذ الأزل، نظرت فيه باستغراب، وما زالت قطعة الخبز في فمها، مضغتها سريعًا، ووضعت ما تبقى من الخبز على الطاولة التي بجوارها، واتجهت نحو الباب، فإذا بفتحة القفل مختلفة عن بقية الأبواب، فخطر في بالها سريعًا المفتاح بظرف البارحة، لقد فتنها تميزه لذا كانت تفكر به طيلة الوقت، دست يدها في جيبها لتبحث عن المفتاح، لقد كانت جيوبُها تتسع لكل شيء، وتدس فيها كثيرًا من أدواتها، وجدت المفتاح وألتقطته أخيرًا، فتحت قفل الباب، وبدأت رويدًا رويدًا تسرق النظر ببطئ خوفًا مما قد يكون خلفه.
كانت أشبه بغرفة بلورية فارغة، رأت انعكاساتٍ بألوان فاتنة، تأملت بهدوء، أخذت الأسئلة تجوب ذهنها حول هذا المكان وماهيته، من شدة انبهارها سقط الظرف،
انحنت لتلتقطه فلمحت في البطاقة التي كانت فارغة البارحة اختلافًا، فتحتها فإذا مكتوب بها "لتتخلص من مشاعرك اضغط على الزر يمين الباب" لم يكن حبرًا، بدى بخط أشبه بنورٍ ذهبي،
رفعت رأسها فإذا بالزر الأسود أمامها، تذكرت مشاعرها بالأمس، فضغطت عليه، ثم خرجت من الغرفة ناسية كلّ ما مرت به، وكأن ذلك الزبون لم يدخل قط ولم يعبث بكنزتها الأرجوانية..
وعند المساء، في نفس الوقت قبل أن تغلق المتجر بنصف ساعة، دخل زبون يلبس بالطو بني اللون وقبعة سوداء ونظارات فضية مدورة، وبيده سيجارة ذات رائحة مزعجة،
غمر الدخان المتجر الصغير، اقترب منها وجلس على الكرسي أمامها،
· سألها: لابد وأنك تعملين بجهد كم تجنين هنا؟
· ردت باستغراب: ولم تكترث لذلك؟
· ماذا إن أخبرتك أن ثمة عملٌ كعملك لكنك ستجنين منه مالًا أكثر؟
· أين؟
· أتيت هنا لأعرض عليك أن تعملي في مصنعي، إنه جديد تقريبًا وينقصني أيدٍ عاملة لتكتمل تجارتي.
· وما اسم مصنعك؟
· اممم لم أقرر ذلك بعد
شعرت بالريبة نظرت إليه بصمت..
ترك ورقة صغيرة فيها تفاصيل المكان قائلًا: حينما تقرري فلتأتي.
ذهب الرجل، وأغلقت صوفي المتجر وعادت أدراجها، وهي تفكر بالأمر طوال الوقت.
وفي صباح اليوم التالي، ذهبت مسرعة لتصعد القطار، فقد دفعها الحماس لتجربة جديدة، وحينما وصلت، رأت عالمًا سحريًا، وقلعة ضخمة وكأنها تتلألأ من شدة جمالها، لاحظت أن عليها شعار المنارة، كما في الظرف تلك الليلة. اصطحبها أحد العاملين عشوائيًا ليريها مكان المقابلة لتعيينها هنا، وبينما كانت تمشي شعرت أن الأمر مختلف، لا يبدو هذا المكان وكأنه متجر ملابس للحياكة!
قال لها الذي أرشدها: فلتنتظري هنا، يمكنك الجلوس.
دخل الزبون عينه الذي عرض عليها الوظيفة قائلًا:
· مرحبًا صوفي! يسرني قدومك.
· ولكن كيف عرفت اسمي؟
· إنك معروفة لدينا، لكن دعيني أقص عليك الأمر أولًا:
· أنت لا تذكرين، لكنك كرستي وقتك لينجح عمل هذا الباب، الكثير منا يعاني بمراحل متفاوته، إلا أننا نشترك جميعًا بالأمر ذاته، أننا نريد الخلاص من كل ذلك والهروب منه، لذا كلٌ منا أوى إلى فكرة الباب كما فعلتي أنت، رغم أن من يعمل عليه هم من أمهر السحرة إلا أن في كل مرةٍ خطبٌ ما يحدث، إنّ الأمر أشبه بلعنة، وكأننا محجوزين هنا، وكلما دخل فرد جديد في هذا الأمر حُبس معنا، لكنّ فرص الجديدين أكبر في الخلاص، ما إن يخرج أحدنا تنفك اللعنة علينا جميعًا، ونرجع أحرارًا،
قاطعت صوفي مرتبكة: أحرارًا من ماذا؟
· يُخيّل إليك أنه عالم طبيعي كعالمك في السابق إلا أنه مختلف جدًا، إنها لعنة، نحن لا نجوع ولا نعطش ولا ننام ولا يهدأ لنا بال، ونكرر الأخطاء ذاتها.. فهذا الباب لا يغير مشاعرنا فقط بل ويجرد منا خبرة أمرّ الأيام التي مررنا بها، فتتكرر هفواتنا ونعود للباب لأننا لم نعد نطيق تحمل أعبائنا، اعتدنا على التجرد منها.
· ردت صوفي بانفعال: وماذا علي فعله الآن؟
· فلتتمالكي نفسك ولا تدخلي هذا الباب أبدًا وبهذا سنجعلك رئيسة على قسم السحرة كاملًا، تقودينهم كما رغبتي، بشرط إن دخلتي الباب ستُحرمين من ذلك ومن كل المزايا التي تأتي معها.. إن الأمر أيسر على الجدد، فهم لم يدمنوا ذلك الشعور بعد، فما رأيك؟
· وإن لم أنجح سأبقى عالقة هنا للأبد؟
· منذ موافقتك على الشروط قبل دخولك وأنتِ عالقة بهذا العالم لا محالة..
· ومالذي يجعلني أصدقك؟
· ليس لديّ جواب لهذا، لكن حينما تفعلين ما أقول سيصبح لك فرصةً لتحررينا جميعًا.
· وكيف ذلك؟
· يجب أن يضحي فرد بنفسه من أجل البقية،
· ردت صوفي والرعب يملؤها: أجننت؟ أفضّل العيش هنا في هذه اللعنة على فعل ذلك!
· صرخ: حراس! زجوا بها في السجن إلى أن تغيّر رأيها أو اتركوها تتعفن في زنزانتها
· بكت صوفي: اتركوني أيها البشعين! لن تفلتوا بذلك!
أدركت أنها خُدعت بأمر المال، لقد جعلها تظن أنها ستعمل هنا خياطة كما كانت، بكنها استدرجها لتصبح كبش الفداء.
أخذوها إلى مكان مخيف، لا يمت للجمال الذي رأته مسبقًا بأي صلة، وكأنهما عالمان مختلفان، لقد كان كئيبًا مريبًا يملؤه أصوات الحشرات تمشي في كل مكان، مشت لوقت طويل، فقد كان السجن بعيدًا لكبر القلعة، وحينما وصلا كان المكان أكثر وحشة، كان مصممًا لأن لا يتسنَ لأي فرد بأن يرى السجين الآخر، لأن لا يتآمروا، كانت تفاصيل القلعة هائلة، لا جرم أنه عمل أفرادٍ لا ينامون ويعملون طيلة الوقت.
كانت زنزانتها منحوته بتفاصيل خلّابة، رغم أنها مخيفة إلا أنها متقنة الصنع، كاد الصداع أن يقتلها لذا بدأت تفك ظفائرها على مهلٍ وهي تفكر مالذي سيحلّ بها، وكيف أنهم جشعين يريدونها أن تموت ليعيشوا هم، رغم أنهم لم يقدموا لها أي شي بالمقابل، تمنت لو أنها لم تأتِ هنا قط، وبينما تتفكك ظفائرها سمعت صوت سقوط شيء من شعرها، تبعت الصوت، ظنته دبوسا عالقًا في شعرها مسبقًا ولم تنتبه له، وإذا به كجوهرة معينة الشكل حمراء اللون، ومن الجهة الأخرى دائرة سوداء، أشبه بزر، ضغطته فظهر لها باب، قفله كمقاس الجوهرة، وضعته وفُتح لها الباب لتعود إلى عالمها.
لحسن الحظ أنها قد خططت مسبقًا في أمر مثل زر للطوارئ يعيدها إلى عالمها، فالأحمق من يثق بالسحر كليًا.
عادت إلى غرفتها ورأت بالمرآة الجزء الأبيض من شعرها، كما عهدت نفسها، أيقنت أن الباب لتغيير المشاعر لا يُجدي نفعًا بل ويجعل الأمور أكثر تعقيدًا، إنه الوقت ليواجه المرء جُلّ مشاعره ومخاوفه ويمتلك الجرأة ليتخطاها.
أروىٰ آل يوسف
Comments