في يوم من أيام الشتاء الماطرة، وفي كوخ بأعلى الجبل، كانت العائلة الصغيرة تعيش طقسًا من طقوس الخوف الجماعي الذي يجمعهم على أمل النجاة كل مرة في مثل هذا الوقت من العام، سقطت إحدى النوافذ الأمامية إثر صاعقة مدويّة، ووسط هلع الجميع تسلل طيف أثيري، فيما هرعوا لغلق الفجوة بسرعة.
كبر الأبناء ولم يعد هذا الطقس يجمعهم، فهنالك ما صار يثير القلق أكثر من تلك العاصفة المطرية. صار كل فرد منهم يجلس في غرفته منعزلًا يواجه ذاته، ويغرق في تعقيدات حياته، حتى غدا تشاركهم للأحاديث والأسرار الجماعية محض فكرة مستحيلة؛ فباتوا يجتمعون لإلقاء التحية، وتناول الوجبات، لينغمسوا في عوالمهم الذاتية السحيقة.
ظلت تلك الروح الأثيرية وحدها من ترى ما يشعر به الجميع -دون أن يراها أحد- وتعرف ما يخفونه في غرفهم الخاصة من أسرار، حتى تشكّلَت بينها وبينهم علاقة ألفة حميمية، فلم تعد تجد نفسها إلا بينهم.
تسلّلت يومًا هذه الروح الأثيرية لغرفة الفتاة ودسّت فيها رسالة حب من خطيبها الذي تركها لسوء فهم، ومنذ اختفى وهي تهيم في أحزانها.
هرعت إلى غرفة الفتى الصغير وخبأت له بعض الحلوى، التي لم يعد أحد يجلبها له، بعد أن انشغل الجميع بما هو أهم من تلبية رغباته.
وفي نفس اليوم أبرزت صورة تذكارية لحفل زفاف الزوجين، ليتذكر الزوج يوم ذكرى زواجه، التي أهملها منذ سنوات، وترك تجاهلها جرحًا غائرًا في قلب زوجته.
أما الفتى الأوسط فإنها وضعت على طاولة مكتبه تذكرة لحضور مارثون الجري السنوي، الذي أحبط كثيرًا لنسيان موعده السنة الماضية.
أرسلت الفتاة بَرْقيَّة لخطيبها تخبره بأنها تتفهم ما حصل، وترجو منه أن يعود ليكملا حياتهما معًا، وتذوق الفتى الصغير الحلوى التي يحبها، وفي خلَده أن والديه أرادا مفاجأته بها لحسن سلوكه، وتفاجأت الأم بهدية مغلفة فيها عبارة توحي بتذكر زوجها لهذه المناسبة الأثيرة! وخالجها شعور بأنه يهتم بها حقًّا، ووجد الفتى الأوسط تذكرة ماراثون الرياضة المفضلة عنده، فظنها مفاجأة من أخته -التي سمعت مرارًا تذمره من فواته- رغبة منها في إسعاده.
وعند مغيب الشمس كان الجميع موجودين في صالة المنزل، الأم مبتهجة باهتمام زوجها، والفتاة سعيدة بعودة خطيبها، والفتى مرتديًّا ثياب الرياضة من فرط الحماس، والأب محتضنًا الأم! رنّ جرس الباب، فإذا هو خطيب الفتاة حاملًا معه باقة من الورود البيضاء، وكان بمثابة إعلان لرغبته في الزواج منها، تعانق الجميع إثر هذه الصدف غير المتوقعة أبدًا بذهول، وكأنهم قد كانوا على موعد مع الفرح الذي غاب عن منزلهم منذ سنوات. ظلّ الطيف واقفًا لوحده يرمقهم بغبطة، لم يحتضنه أحد، لم يره أحد، فضلًا عن أن يشكره أحد، لكنه كان سعيدًا أن بإمكانه وهو غير مرئي، تغيير ما لم يستطعه المرئيون.

دلال المبارك
Comments