عانى ساعي بريد طيلة عمره من عتمة مشاعره أو كوصف ادق كانت مشاعره ذات نفس قصير بحيث لا تستطيع أن تكمل ما تود أن تعبر عنه .. كانت كلماته تخونه كثيراً وتخنقه بشدة .. تحتبس في حلقه كلما قرر مرة الإفصاح عنها .. كان كل ما يتمناه أن ينظم حروفا كما في الرسائل التي يوصلها كل يوم.. كان يتساءل دائما كيف يشكل الكلمات؟ كان يتمنى أن يوصل حماسة شخص من آخر الأرض إلى متلقي تلك الرسالة.. أحس بأن تلك المسافات التي تقضيها الكلمات في داخل تلك الأظرف تجعلها سجينتها..
لذا ذات يوم وهو ذاهب إلى عمله أتاه شاب مملوء بالحماسة وعيناه تفيض حبا وهو ينظر إلى ذلك الظرف الذي أعطاه إياه ليوصله إلى العنوان المكتوب على الظرف.. أوصلها ساعي البريد بحماسة وهو ينتظر الشخص المحظوظ الذي سيستلمها إلا أن تلك الفتاة أمسكتها، قرأت عنوان المرسل المكتوب على الظرف فتحتها بدافع الفضول وقرأت ما فيها، امتلأت الفتاة غضبا، كانت الكلمات التي كتبها قد فهمتها الفتاة بشكل خاطئ فما كان منها إلا أن قالت لساعي البريد: أوصل له غضبي..
ظل يفكر ساعي البريد كيف يوصل غضب تلك الفتاة؟ أي كلمات ستوصله ؟ أي بريد سينقله؟ إلا أنه وهو مستلقِ على فراشه في تلك الليلة قرر أن يمسك بيده ظرفا، فكر بكل ذلك الغضب الذي مر به في حياته وأغلق الظرف، وعندما حل الصباح أخذ بيده ظرفه الفارغ وأوصله إلى عنوان الفتى فإذا بوجه الفتى ترتسم عليه علامات الغضب، ظن أنه بسبب الظرف الفارغ الذي يظنه المرء مزحة ثقيلة إلا أن الفتى أخذ يتمتم بعبارات الغضب ويكرر الاسم المكتوب على ظرف الرسالة، سأله ساعي البريد أهناك ما يغضبك سيدي؟ أو هل هناك ما أستطيع فعله من أجلك؟ أهناك رسالة تود مني أن أوصلها؟ أخبره بأنه أراد أن يوصل أسفه وأن يوضح كل شيء ولكنه كان كساعي البريد، كلماته تتلاشى منه كما لو كان يكتبها على صفحة ماء.
ذهب ساعي البريد بعد أن أخبره بأن سيتكفل بالأمر ألا أنه ظل مشغول الفكر.. كان قد انحاز لعاطفته مرة أخرى وكيف سيخرج نفسه من هذا المأزق؟ كيف سيكتب تلك الرسالة؟ وعندما حل الليل للمرة التالية عاود الكرة: أمسك بالظرف، وأخذ يتخيل كل ذلك الأسف الذي أحس به من قبل، أسفه على نفسه.. على العالم.. على أخطائه السابقة ..على الأشخاص الذين لم يعتذر لهم أحد ثم أغلق الظرف.
استيقظ في الصباح، أراد أن يتأخر قدر المستطاع عن بيت الفتاة، كأن معجزة ستحدث وتخرجه من هذا المأزق إلا أنه أخيرا استجمع شجاعته وقرر الذهاب إليها، وأن يشرح لها وجها لوجه ما أراد الفتى قوله وأن يعطيها الظرف كذريعة لبداية الحديث، وبينما هي تفتح الظرف الفارغ بدأت تقول كيف لم أفهم ذلك؟ كيف لم أفهم ما أراد أن يقوله لي؟ كيف أحسّ بهذا الأسف كله؟ تفاجئ ساعي البريد لم يصدق ما حدث لم ينبس ببنت شفة وفهمت تلك الفتاة الحكاية كاملة، تناول من الفتاة الظرف فإذا بمشاعر الأسف تتسرب إليه هو الآخر .. أدرك ساعي البريد بأنه أصبح يملأ تلك الأظرف مشاعر واضحة ذات حد واحد بدلا من كلمات ذات حدين.. فأصبح كل مساء قبل أن يهم إلى النوم يمسك بتلك الأظرف متذكرا مشاعر الأشخاص الذين أعطوه إياها ويملؤها في تلك الأظرف فإذا تلك المشاعر ذاتها تنطبع على كل فرد تصله واحدة من تلك الرسائل، مساء تلو المساء يمسك بالأظرف ويملؤها مشاعراً حتى غدت عادة لديه، وكانت هذه هي العادة السحرية التي أبقاها ساعي البريد سراً طيلة عمره.

حصة العمر
Commentaires