كان أشبه بصقيع يتملك عقلي، فأنا لم أكن قادرا على استيعاب ما أسمعه، أكملت النظر الى صالح وكأن الزمن توقف حینھا، كل شيء بداخلي تجمد، عقلي وجسدي ماعدا عیني، ورغم الثلوج التي تحتویني إلا أنھا تنزف ماء حاراً یذیب كل الذي أمامھا، حاولت أن أستمع للبقیة لكن لا أحد یستجیب لي، كل عضو بي قد انفلت عني، بالطبع لن أقول شيئا فالذي أتى بھم للحیاة قد غادر للتو للأبد، لا أعلم ھل أستمع لصراخ عقلي، أم إلى أنین قلبي، ظلت العبارة تتكرر على مسامعي كشریط لا یحب أن یتوقف : " یؤسفني بأن أقطع علیك أھم لحظة أنت بھا، لكن لابد بأن أقول لك ذلك، لقد غادرت والدتك الحیاة."
- ماذا ؟ ھل أنت جاد یا صالح؟
- أنا آسف جداً لكن ھذه الحقیقة .
- أعتقد بأنك مخطئ، فأنا خرجت من عندھا ھذا الصباح وھي بخیر، أرجوك قم بالتأكد مرة أخرى .
-أنس، استمع إلي یا صاحبي، أنا متأكدٌ من ذلك فبینما أنت على المسرح، كان ھاتفك لا ینفك عن الاتصال، حتى تلقیت تلك الرسالة التي تؤكد ذلك، ھذا ھاتفك، وأیضاً یجب علیك الذھاب إلیھم سریعاً لتنتھي من الإجراءات الأخرى.
لم أتمكن من تقبل مایحدث لي فبدل أن أھرع ازددت برودة، وقلبي بدأ یعزف لحناً حزیناً یعتصر ألماً من وجعه، أمي غادرت.. ھل أنا أحلم أم ماذا؟ لم أعد أشعر بالذي یحدث حولي، فالوقت توقف بالنسبة لي، فلم یكن ھناك إلا أنا ونفسي، وقفت وتركت من حولي، ومضیتُ كجسد تائه بلا روح، أسرعت إلى ذلك المكان متمسكاً بقلیل من بصیص الأمل رغم انعدام خیار ما أتمناه تماماً، دخلت على الطبیب لأحادثه : ماذا یحدث؟ ھل صحیح ما سمعته؟ أرجوك أخبرني بإنھا تنتظرني وترید رؤیتي، لا تخیبني فھي كل ما أملك في حیاتي، رفعت رأسي لأتلقى إجابة منه، فكانت عیناه أول من أخبرني بذلك الخبر القاسي قبل أن تنطلق بعض الكلمات منه: نعم ھذا صحیح، ویؤسفني إبلاغك بذلك، لكن كان ھذا متوقعا منذ فترة، فالمرض قد انتشر في جمیع أنحاء جسمھا في الآونة الأخیرة، وطلبت مني ألا أخبرك، والآن أریدك أن توقع على بعض الأوراق لیتم نقلھا وتذھب لرؤیتھا.
أما أنا فقد أبحرت أبعد وأبعد عن ھذا المكان، تركتُ جسدي یھم خارجاً لیلقي بنفسه على أحد المقاعد، وانضم إلي السكون، نعم ھدوءٌ رغم الألم، رغم الجرح فقد فارقني أعزّ ما أملك، ھي الروح والحیاة لجوفي، ھي التي مھما تحدثت عنھا لن أستطیع أن أصفھا لو بجملة، ھي عائلتي كلھا، أبي لم أره منذ الصغر، فقد حصدْت روحه.
ذھبتُ لأراھا للمرة الأخیرة، لأقول لھا وداعاً یاذات القلب الأبیض، یا روحاً سكنت أعماقي وأبقت فیه آثارا لن تنمحي، لا أعلم ماذا أقول أیضاً فكلماتي كثیرة جدا، لكن جلّ ما أنا أؤمن بقوله ھو أحبك یا أمي .
كان ھذا آخر ماتمتمت به لھا بعد أن طبعتُ قبلة على جبینھا، ومضیت تاركھا خلفي ومعھا قلبي، مضت الأیام سریعة كالبرق وأنا محطم وتائه، ففي تلك اللحظة كنت سأخطو أول خطوةٍ لي على سلم النجاح، لكن تركتھا ورائي لأرى أمي، كنت سأخبرھا بأنني نجحت في أول خطوةٍ لي، وأنا على مقربة من ذلك الحلم الذي لطالما بد بعیداً، فمنذ صغري لم تكن أحلامي اعتیادیة، لطالما كنت أنھمك في الحدیث عنھا فأرفع رأسي لأنظر لأمي وھي تنصت إلي بتلك النظرة المتأملة، وعندما أنتھي تقول: "ستحققھا یابني، أنا واثقةُ بك" فأشتعل حماساً في كل مرة تقول لي ذلك، كبرتُ قلیلاً وأحلامي بدأت تتغیر قلیلاً، ومع ذلك أمي تردد العبارة ذاتھا.
لا فائدة من ذكر ھذا كله فقد ذھبت وذھبت أحلامي معھا، تقوقعت داخل منزلي فأنا لا أرید رؤیة أحد وحتى حلمي لا أریده أیضاً، فھو كصقرٍ شامخ یحلق بالسماء یحوم بین الجبال، یفرد جناحیه ذو النقوش الجمیلة ویریني سرعته لكن عندما تنكسر تلك الجنحان ھل سیكون ھو الصقر ذاته؟ بالطبع لا، فلقد اختفت نصف آماله مثلي تماماً وحلمي بأن أصبح طیاراً قد غدا مستحیلاً.
عكفتُ على نفسي في منزلي، متجاھلاً تخفیف الناس عني، أصدقائي و أقاربي، فأنا اخترت العزلة حینھا. مضت شھور على وفاة أمي وعلى تخرجي أیضاً من المرحلة الثانویة. ابتدأت الدراسة مرة أخرى، وبدأ الناس یجرون وراء أحلامھم متشوقين لمستقبلھم المشرق ماعداي أنا، من بین مشاغل ھؤلاء الناس كان صدیقي صالح أكثرھم اتصالاً بي، فلم ییأس مني بعد، فإما أرى رسالةً منه تندس من تحت باب المنزل أو اتصال غیر الرسائل على التواصل الاجتماعي مرةً أقرؤها ومرةً أتجاھلھا، لكن في یومٍ ما حصل تغییر قوي لي من رسالة.
ففي ذلك الصباح توجھتُ اتجاه الباب لأرى ماذا ترك لي صدیقي ھذه المره كعادته یضع الرسالة ویمضي لكن عندما انحنیت لألتقطھا اكتشفت بأنھا من مرسلٍ آخر، تعجبت قلیلاً في البدایة من ھذا الذي یرسل إلي بتلك الطریقة البدائیة غیر صالح .
بالبدایة قمت بتفحصھا من الخارج كانت بظرف ذو لون بني، وعلیه طبع بالشمع بكتابة غریبة، غیر الذي كان یرسل لي من صالح نفسه، تعجبت قلیلاً فنحن في عصر قد تطورت فیه جمیع الوسائل! ھممت بفتحھا لألقي نظرة ثاقبة علیھا ففضولي قد تملكني، فأخرجت ورقة متوسطة الحجم قد كتب علیھا الآتي:
"إلى عزیزي القابع في عتمته أنس ... سأقول لك شیئاً، إن كنت تظن أن الحیاة الجمیلة انتھت بالنسبة لك فأنت مخطئ، ولدي الدلیل على ذلك، إن كنت ترید معرفته، ستجدني أنفخ الغبار لأستضيء وستراني أورثُ الناس نوراً".
جلستُ أفكر من ھذا الشخص الذي یخال نفسه یعرفني ویعرف ما نظرتي للحیاة أیضاً؟ ضحكت ساخراً وألقیت رسالته بعیداً عن ناظري وأكملت یومي كبقیة الأیام السابقة؛ أمضیه بالنوم أوبقراءة بعض الكتب أو بالكتابة لأني أرى بأنھا متنفسي وراحتي، فالقلم والورقة صدیقاي العزیزان، في كل مرة أقابلھما أسرد لھما ما تزخر بھا مشاعري، وما ألم بقلبي وما حدثني به عقلي؛ فھما ملجئي وملاذي، ومن ثم أكمل ماتبقى به یومي بأي شي ء آخر .
ومضت الأیام وبالي بدا مشغولاً على غیر عادته، فتلك الرسالة لم تخرج من تفكیري، وما زاد حیرتي أیضاً ھو مكان تواجده، ماذا یقصد بقوله " أنفض الغبار لأستضيء؟" وكیف لنورٍ أن یكون إرثاً ؟ لم أفھم جیداً ما یعینه، وأیضاً تذكرت شیئاً: یاترى مادلیلھ الواثق منه؟ فأنا لا أرى أي شيء قد یثبت أن الحیاة تكون أجمل بدون شخصٍ عزیز كالأم، ثقته بھذه الرسالة دعتني أتسائل وأمتعض لكل كلمة بھا .
رحتُ أنبش عن مكان تواجده فبحثت بالحاسب لكن لا فائدة، بالطبع لا یوجد مكان كھذا، یجب أن أفكر كیف لإنسان أن یحصل على ضوٍء بنفخ الغبار؟ إنه شيء غریبٌ بحق، حسناً ماذاعن أن یكون الإرثُ نوراً؟ كما تعلمتُ فنحن نحصل على الضوِء من الشمس والشموع والمصابیح، ولا یوجد ضوء نحصل علیه بالنفخ، وأیضاً لا یمكن أن یصبح النورُ إرثاً، ظللت أفكر حتى أرھقتُ عقلي، فقررتُ بعدھا أن أتنازل عن الأمر أو أتركه لوقتٍ لاحق، فذھبت إلى مكتبتي لأقرأ كتاباً ربما یؤانسني كما كان یفعل بي سابقاً، وعندما حاولت أن أختار أحد الكتب لم أستطع قراءة عنوانه من الكعب، فأخرجته، وكانت طبقات من الغبار متراكمةٌ علیه، فنفخت لتتضح لي الرؤیة وبعدھا توقفت لبرھة، اقشعر جسدي! فھنا عرفت ما یرمي إلیه المرسل، فقد كان یقصد الكتب في تلك الرسالة، فھو یستضيء من نور العلم المنبعث من الكتب ویرثُ الناس نوراً، أي یعطیھم كتباً، إنه بالتأكید صاحب المكتبة نادر!
أمسكتُ رأسي مذھولاً، إنه رجل كبیر بالسن لم یخطر ببالي أبداً بأنه سیتواصل معي بتلك النوع من الرسائل، فلطالما كنت أتردد الیه وأقتني منه بعض الكتب مع أمي، وأمكث معه لوقتٍ طویل أحیاناً في بعض الأیام، إنه حقاً شيء عجیب، كان بمثابة الأب بالنسبة لي، الآن بما أنني عرفت من یكون سأكسر حاجز عزلتي وسأذھب إلیه بالغد.
وما أن حل الصباح تأھبت وخرجت حاملاً بیدي رسالته، ومشیت في ذلك الطریق الذي كثیراً ما كنت أتردد علیه للذھاب إلى مكتبته فأمر بین حدیقةٍ واسعة تھامسني أشجارھا وتداعبني أوراقھا الصغیرة مع ذلك النور الذي یشعرني بالأمان، أكملت حتى وصلت إلى تلك المكتبة الصغیرة في نھایة الشارع، ذات لوحة متوسطة الحجم تُعرف بھا، وعند الباب علقت لافتة نُحت علیھا مفتوح، وقفت قلیلاً أمام الباب أسترجع كل ذكریاتي مع تلك المكتبة حتى عزمت على الدخول إلیھا، لأجد أمامي الأنوار كما أطلق علیھا مرتبة بطریقتھا المعتادة، مشیت بین تلك الأرفف التي لطالما كان في عھدتھا الكثیر من الكنوز، وفي الزاویة لمحت مقعداً قابعاً بین مكتبٍ لا یمكنني رؤیة سطحه من تراكم الكتب علیھا، وخلفھا السید نادر منشغلاً بقراءة أحد الكتب .
ترددت قلیلاً حتى أبدأ حدیثي معه، فتشجعت منادیاً باسمه حتى رفع نظره إلي ومن ثم وقف مرحباً بي: أنس! یا لھذه الصدفة الجمیلة یا أھلاً بك .
أمسك بیدي، وأجلسني على مقعٍد آخر، رددت علیه: إنھا لیست صدفة بل دعوة منك. برقت عیناه ورفع تلك النظارة على رأسه مجیباً: حسناً إذا، سأقول شكراً لك على تلبیتك لدعوتي، كنت واثقاً من حضورك .
وأكمل مبتسماً: یسرني بأن فطنتك وشغفك للمعرفة مازالت موجودة للآن، فلطالما أبھرتني بفطنتك وأدھشتني بشغفك ووصولك لھدفك بتلك العزیمة، لكن أرى أنك تخلیت عن آخر شيء قلته. غضبت فحدیثه یجعلني أفقد أعصابي أكثر وأكثر، إلى الآن یخال نفسه یعرف شعوري !!
أجبته وعیناي لو تطلق شراراً لأصابته: أعتقد بأنك تُدخل نفسك في ما لا یعنیك، وسبب مجيئي ھنا لا لأستمع لآرائك عني، بل لأرى دلیلك الذي یجعلك واثقاً إلى الآن، لدرجة أنك تكمل كلامك بكل سھولة . . .
قاطعني صوت ضحكته، وأنا أحدق به متعجباً: ما المضحك في الأمر؟ حتى نطق: ولا زلت أیضاً مھاجما قويا، إذا كنت ترى بأني لا أعرفك فكیف إذاً أنت واقف ھنا أمامي؟
لم أفھم الأمر بالبدایة، لكن بعدھا تداركت: صحیح، فھو نجح بكسر حواجزي بكل سھولة، ولن یفعل ذلك أي شخص لا یعرفني جیداً، ھدأت قلیلاً ثم رددت :
بالطبع ھذا صحیح، دعنا من ذلك الآن، أرید ذلك الدلیل الذي تھت في ثقتك به، رد علي: سآتیك به بالطبع لكنه لیس لدي .
- كیف لیس لدیك؟
-إنه بحوزتك، من یقود حیاتك؟
- أنا بالتأكید، ماعلاقة ذلك بالدلیل؟
- حسناً فالدلیل ھو أنك اخترت بأنھا ستكون سیئة، ولكن ھنالك خیار آخر نسیت أن تلقي نظرةً علیه، بأن الحیاة أیضاً رائعة.
-كیف تكون كذلك بدون أم ؟
صمت قلیلاً ثم قال: عندي سؤال لك، ھل تعتقد بأن الحیاة ستقف لتشفي مابك أم ستمضي؟ لم أجب، لأن أعتقد أن الإجابة واضحة، وبدأ یسرد حدیثه قائلاً :
استمع إلي یا ابني، الحیاة ھي الوقت، إن توقف وقتك توقفت حیاتك، أما من أھدر وقته فقط بالوقوف، فقد أھدر حیاته، لا تجعل أي أمرٍ یوقفك مھما كان مرّاً، امض فمستقبلك بانتظارك، الآن انظر لما حولك، أرأیت كل تلك الكتب، إنھا تحمل قصة، جمیع الأبطال فیھا قابلتھم مشكلات عصیبة، لكن ما میّزھم عن غیرھم ھنا بأنھم لم یعرفوا الاستسلام قط، بل رسخت في عقولھم العزیمة، وبالنھایة ماذا حصل؟ حققوا أحلامھم بطریقة لم تُخیل لھم اطلاقا، ونجحوا وأدركوا معنى الحیاة الجمیلة، والآن ھم قدواتٌ لنا، وأنت ستصبح منھم وتنسج لنا قصتك التي ستسحرنا وتھیمنا، فقط یا عزیزي اجعل ماینافي إرادتك مصدرا لقوتك وإلھامك .
بعدما توقف، لازلت تحت تأثیر كلماته، فكل حرف فیھا فتنني، لم أستطیع رؤیة ھذا المنظور من قبل؟ أنا لن أقف، بل سأتحرك، أحلامي لم تختفي بل تنتظرني، سأفعل كل شيء لأصل لمستقبلي .
نظرتُ إلیه وعیناي تسرد ماعجز لساني عن قوله، فسبقني بالحدیث : إذاً متى ستبدأ؟
وكانت تلك آخر كلماتٍ قد سمعتھا في انكساري، فقد كانت مفتاحا لنجاحي، فأنا بعدھا عزمت واجتھدتُ وثابرت، فعدت لدراستي وأكملتُھا بكل طاقتي، لم أترك للتعب مجالا، وعندما یزورني أقص علیه أحلامي، فیغادر دون أن ینبس ببنت شفة، ولم أتوقف على ذلك فحسب، بل أطلقت العنان لإبداعي آخذاً بنصیحته مشكلاً بكلماتي تحفاً فنیة صغیرة كلُ منھا يعبر عن شي ء ممیز لي، لن یعرفه أحد إلا ھو، فھي كالرسائل المخفیة موجودةٌ فقط في كتبي .
وھا أنا على البساط الأحمر، بساطي أنا فقیمة نجاحي لن یتذوقھا أحدٌ غیري، بعض الأحیان نتردد ونفقد الأمل كما حدث لي، لكن یوماً ما ندرك شیئاً من كلمة أو من شخص فعند سماعنا أو قرائتنا لشي ء ما، واليقين به، سیتراءى لنا الجانب المشرق الذي أعطیناه ظھرنا سابقاً وندرك بأن لكل عتمةٍ نور لكننا لم نبحث عنه بسبب استسلامنا، فكن عازماً، لن أقول لاتوجد صعاب بل سأقول لا توجد مستحیلات .
طرفة الصوينع
Comments