كانت فتاة مغرمة بالعلاقات الاجتماعية، ترى أمها مع إخوتها، فتطمح لوجود إخوة لها كأولئك، ترى أمها مع أصدقائها، وتطمح لولادة أصدقاء حقيقيين من رحم أيامها الرتيبة.
لا جديد ليرد في قصتها، سوى محاولاتها الفاشلة.
وفي صباحٍ يشبه ما قبله، قابلَت إحداهن -إحدى المحاولات- وبوجل عينيها ووضاءة ابتسامتها وتوقّد أملها كانت تبادلها أطراف الحديث، راجيةً أن تكون هي تلك، بلسم جروح أيام خالية.
مضت بعدها حاملةً قلبها بيدها تطمئنه أن "الأمل فيّ ما يزال حيًّا يتنفس وقد نرى النور قريبًا أنا وأنت، فنجد ثالثنا".
كان صيفها ربيعًا مع تلك المحاولة، تشاركها دقائقها وتذكّرها دائمًا أن الصديق ذراع، وأنه غمامة، وأنه كل أمنياتها...
أمّا عندما دخلت فتاتي في فُتات جمر الأيام، وأصبحت تركض بين نار أيامها ووجع آلامها باحثةً عن مخرج، وإن لم يكن مخرجًا فمأوى وملجأ تستريح فيه من غم الدنيا، مثلما ترى نَدَبُ أمها يتلاشى بأصدقائها!
ركضت وصاحت، هرولت وصرخت، ثم أدركت أن كل ما كانت تراه مجرد سراب انتهى بأول خريف وتحت أقلّ حطام..
وفي خضم ذلك الفُتات، تخلت فُتيّتي عن صَبوتها
وأصبح ذلك القلب مصمتًا صامتًا لا ملحًّا ولا جازعًا.
استمرت تمضي دونها الأيام حتى قابلت منقذها، مرّ بها بثيابٍ رثّة تخبرها بكل ما مر به دون أن ينبس ببنت شفة.
اقتربت منه ظانةً أن واجبها المساعدة "تبدو خارجًا من معركة، أيًا كان ما مررت به في معركتك فأنت قد خرجت منه تتنفس".
أجابها "كنت أظنه ذنبي أن خرجت من معاركي أتنفس، ربما وجب انقطاع النسيم، ربما أنا كنت الهدف في تلك المعركة".
ردّت "لِمَ نتشبّث إذًا؟"
-"ربما اخترنا تسلق الجبال، وبينما نحن نتنفّس الصعداء ونحاول التشبث كما تزعمين، نرى من اختار التلّ ومن اختار الهضبة قد وصل والتقط أنفاسه، فما نصل نحن إلا وقد برئت جراح الجميع سوانا!"
-"أنحن اخترنا الجبل أم هو اختارنا؟ إن كان اختياري فأختار النزول الآن والمضيّ حيث المرتفعات المنخفضة، حيث اللاألم ولا انهيار ولا تشبّث بما طمعنا به وما لم نطمع به".
-"ولكن بعد وصول قمة ذلك الجبل، ستكون رؤيتنا أوضح، منطقنا أشمل، سنكون أنضج من أولئك في الوديان وفوق الهضاب والتلال، أليس كذلك؟"
سألت بحنق: "أتضمن لي الوصول للقمة؟ وعندما نصل كم سنمكث هناك بلا عراك؟"
-"دنياي ودنياك جبلت على العراك فما أظن أننا سنمكث كثيرًا في القمة بلا حراك" سكت هنيهة ثم أكمل "أهم ما في أيامنا هو نحن ذواتنا، إن لم نرمّمها خلال المسير فمن بقي لنا إذًا؟"
-"ما هو ترميم الذات؟"
لم يجب عن سؤالها، أمسك بيدها ومضى معها حيث باب أبيض ضخم، وقال: " هنا أرمّم ذاتي" فتح ذلك الباب وقال: "أهلًا بك في غرفة تغيير المشاعر، كل ما عليك فعله في كل مرة تخرجين منهكةً من أيامك أن تأتي هنا، حيث حل المشكلات وترميم الذات".
اكتستها الدهشة، فأخذت تنظر في أرجاء تلك الغرفة.
اقترب منها هامسًا: "الآن نستطيع الوصول لقمّة الجبل بأقل خسائر، لن نحتاج ذراعا لنتشبث ولا لغمامة تقينا لهيب الشمس، لن نحتاج لأصدقاء يحققوا أحلامنا معنا".
خرجت فتاتي من الغرفة مستعيدةً فتوّتها، مستعدةً للعيش بلا رفيق سوى غرفة تغيير المشاعر.
فما عادت الرغبة موقّدةً عمياء تلحّ عليها بالبحث عن أصدقاء، وها هي اليوم تمضي قدمًا ملتئمة الجراح لتحقيق المنى، وبلوغ المرام.
غدير السناني
Comentários