حينما دقت الساعة معلنة منتصف الليل من يوم السبت، كان فريد إسماعيل قد أفاق من نومته، ليجد نفسه ممدداً على قطيفة مخملية على الأرض. فأدار جسده ناحية السقيفة المرتفعة. لقد لزمته لحظات قليلة حتى تتسنى له الرؤية بكل وضوح. لقد رأى أشكالاً منحوتة في أعلى السقيفة التي كانت من الجبس الملون، وتماثيل موضوعة في أركان الغرفة حيث كان وفي زواياها. حينها قفز عالياً وقد اعتلت ملامح وجهه دهشة وخوفاً. وقال: - أين أنا؟ وما الذي قد حدث لي؟
لم يكن يعلم إطلاقاً أي شيء، عدا عن أنه في غرفة من غرف منزل ما يجهله تماماً. وكان لما حاول أن يستوي واقفاً رغبة في السير، رأى أنه لا يبصر من جسده أي عضو كان! لقد بدا كما لو أنه مجرد عين واحدة تبصر كل شيء عداها. لقد كان فريد إسماعيل لحظتئذ مجرد روح صافية تسير دون أي جسد البتة.
وجثا على الأرض بكل أسى وحزن، واجتاحته رغبة عنيفة لأن يبكي، إلا أنه لم يستطع سوى أن يشعر بالحزن. وأخذ يسأل نفسه بدون توقف: - ما الذي حدث يا الله؟! ثم وما الذي سيحدث الآن؟ وأين أنا؟
حينها، أدار أحدهم قبضة الباب ودفع دفتيه فانفتح الباب حتى أكمله. فأخذ فريد إسماعيل بكل سرعة لإخفاء نفسه إلا أنه تعثر بطرف القطيفة التي كانت موضوعة على الأرض، فأخذ يزحف محاولاً أن يكمل هربه. إلا أنه فوجئ تماماً حين رأى أن من دخل، وكانت امرأة حسنة الملامح بدت عليها علائم الحزن المقيت، قد أكملت بحثها في الغرفة عما كانت تبحث عنه دون أن تنتبه لفريد إسماعيل! حينها ازدادت خشيته أكثر، وأستطاع أن يدرك أنه غير مرئي لأي أحد.
قالت السيدة بعصبية: - من هذا الذي تجرأ على أن يحرك القطيفة بكل هذه العبثية؟!
وأخذت تقيمها، وأعادت تنظيمها ثانية. فقال فريد إسماعيل: - أنا من فعل ذلك دون قصد. المعذرة.
ولم يفعل ذلك إلا في محاولة منه للتأكد من أن صوته هو الآخر غير مسموع! وكان اعتقاده ذاك صائباً تماماً، إذ أن السيدة لم تسمعه البتة، وتابعت سير عملها وانصرفت.
وبعد نصف ساعة تقريباً، أحس فريد إسماعيل برغبة تشتعل في داخله اشتعالاً في أن يخرج من غرفته تلك، وآثر أن يتحرك في صمت. فقام بفتح الباب بكل تؤدة، فتناءت إلى مسمعه أصوات لفتيات صغار يلعبن، ومن مكان آخر أصوات لرجال يتحدثون بنبرة خشنة وهادئة. فسار في محاذاة الحائط على طول الرواق المؤدي لحجرة الجلوس حيث كان مصدر حديث أولئك الرجال. ولما وصل حد نهايته، انتبه لشاب آخر كان قد مر من جانبه يسير إلى حيث كان البقية، فأصابته نوبة هلع شديدة خشية أن يكشف أمره. ولكنه لما تذكر أمر اختفائه ذاك، آثر أن يكمل سيره دون تردد.
خرج فريد إسماعيل إلى حيث حجرة الجلوس، حيث كان ثلاثة رجال كبار كان انطباعه الأول عنهم أنهم نبلاء، وكانت ملابسهم المخملية ومعاطفهم التي من الجلد، وتدخين أحدهم غليونه من التبغ الفاخر، وموسيقى الكونشارت الخاصة بموزارت التي كان جرامافون موضوع في أعلى المكتبة مصدرها، جميع ذلك ترك في نفس فريد إسماعيل أن أولئك الناس إنما من أصل نبيل وأرستقراطي! فما كان له إلا أن ينتعش بهجة وهو يقول: - هذه هي الحياة التي ظللت أنشدها طوال عمري.. حياة بها من الغنى ما يخولني لأفعل ما شئت. حينها ما كنت لأشعر بالحزن يوماً..
واستمع إليهم بينما كانوا يتحدثون، وكان أحدهم يقول: - زرت البارحة مكتب رئيس المفوضية السيد إبراهيم ك. وكان ضجراً غاية الضجر. وفسر ضجره ذاك أنه "دون سبب"! يا رحيم.. وهل يضجر أحدهم دونما سبب؟ - نعم.. هكذا قالت آنا سفيتلانا.. ضجر في الشتاء!
فضحكوا جميعاً. ثم صمتوا. ولما كان ذلك قال الأخير للأول: - هيه! يا سيد مراد، فإن كنت ستذهب في زيارة أخرى إليه فأطلعه أني قد سرقت منه فيما مضى من الأيام ما مقداره خمسة آلاف فرنك كاملة! أتعلم؟ لقد اشتريت بها الإصدار الخامس والجديد من سلسلة أفلام بيكنز وودي الرائعة!
ثم ضحك عالياً، حتى أن صوت ضحكاته ملأ أرجاء الغرفة. وقام مستوياً وأخذ يرتب من هندامه، وأعاد علبة دخانه إلى جيب معطفه بعد أن ارتدى قبعته ثانية، وقال: - والآن يا سيد إسحاق.. لقد انتهى وقت ضحكنا. إن علينا الذهاب. ثمة ما يجب القيام به على الدوام. إن هذه الحياة متعبة.
وسار هو وصديقه الثالث مبتعدين نحو باب المنزل، وغادرا. فيما بقي السيد إسحاق، وهو رب المنزل حسبما أدرك فريد إسماعيل خاصتنا. حينها خيم السكون المنزل مجدداً وقد اكتسى حزناً وألماً.
وبعدها بعث السيد إسحاق في طلب الخادمة! وقال في هلع: - كيف صارت حال مريم؟! - إنها ما زالت على حالها تلك، ولم تتوقف عن البكاء ولو لثانية. إن الألم يقطع قلبها.
فأخذ يجري بسرعة نحو غرفتها، وفتح الباب ودخل. فما كان لفريد إسماعيل إلا أن يتبعه! وسمع مريم وهي تقول: - أبي! إنني أموت..
ثم انتابتها نوبة بكاء بينما كانت تردد دون توقف: - لا أريد أن أموت.. أنا لا أريد أن أموت..
حينها أحس فريد إسماعيل بغصة في قلبه، لقد كانت كسكين مدببة تنغرز في صلب قلبه. وصرخ إسحاق حينها عالياً وقال: - أين يعقوب؟ أين يعقوب؟!
ثم أخذ يجري مسرعاً ناحية الباب وكاد أن يسقط أرضاً. يا لما أحسه فريد إسماعيل من ألم وحزن شديدين في قرارة نفسه حينها. أي حال تلك التي قد تجعل من رجل محترم غاية الاحترام كالسيد إسحاق، أن يجري بكل هلع بهذه الطريقة حتى ليكاد أن يسقط، بينما ابيض شعره لكبر سنه! يا إلهي الرحيم! يا إلهي الرحيم!
أما يعقوب، وهو الابن الأكبر لإسحاق، فلقد كان قد غادر المنزل بنفسه بحثاً عن طبيب ما لمداواة مريم على شكل عاجل. ولكنه لما عاد بعد دقائق قال: - إن المدينة خالية من أي شيء عدا من قلة الحيلة! أي انكسار نحس به يا بابا! أي انكسار وخيبة هذه! بينما أنا رئيس كل هذه البلاد التي لا نهاية لحدودها! إنني عاجز عن إبعاد الألم عن جسد صغير غاية في الصغر كجسد مريم!
وعند تلك اللحظة، كان فريد إسماعيل خاصتنا قد أفاق من كابوسه ذاك، ورأى أنه قد عاد طبيعياً بجسده المعتاد، وأخذ يتفحص سريره الحديدي والأوراق التي كانت على المنضدة قبيل نومه فأدرك أن كل ذلك إنما كان كابوساً فظيعاً حلم به أثناء نومه! وقال: - لقد رضيت بكل ما أمتلكه كل الرضى!
(تمت) بسام زكي
