نزلت الدرجات بخطوات لا تكاد تتوالى، في الصالة المظلمة التي لا تنيرها سوى مصابيح الفناء، وقفت أمام سخانة المياه، صوتها يتردد أعلى وأعلى ليضمها في صمته الأبيض وتغرق هي في الأسى، أمواج بحره تسحبها بعيدًا إليه وثقلها للعمق يأخذها.
كيف لم يصدقها أحد أو يثق بها بعد كل عمرها الطويل معهم؟ وكيف شعرت بوحدة عارمة في تلك اللحظات وظلت تتزايد حتى حينها. ما آلمها بشدة أن انقشاع ذلك الزيف عنهم لم يجلِ سوى الوجه الجميل لما تراه فيهم. أما الآن فلم يتبق لها سوى حقيقة الوجه المظلم، الحقائق القابعة خلف الزيف:
لا أحد يثق أو يصدق حولها، الكل يظن..
وفي ذلك انهيار للعلاقات الإنسانية التي ارتاحت إليها في حياتها، آلمها أكثر من ذلك أن لا سبيل لتأكيد وجود الصدق والحقيقة التي تحملها بداخلها دون أن يعترف بها شخص واحد على الأقل، إن لم يصدق شخص واحد على الأقل أن ما تحمله داخلها وتخبر به حقيقة فكيف سيتم تأكيد ذلك في العالم خارجها؟ اختنقت بتلك المشاعر أشد الاختناق، من صدقها وعدم تصديقهم ومن نبع الخذلان الذي تفجر وامتزج بالأسى...
طق!
حملت كوب الشاي بين كفيها وجلست في زاوية الأريكة، دفئ الشاي بين يديها وكيف تشعر به ينصب في جوفها، تتبعته بحسٍ عال. كان ذلك يواسيها بطريقة غامضة، كما لو أنه يهدئها بصمت، وكما لو أنه يرى كل شيء أخفي داخلها ولم يطلع عليه الآخرون.كانت تشعر به يصدقها وشعرت بسكونٍ يحيط بها في تلك الزاوية المنارة بخفوت...
في تلك الزاوية من العالم وفي تلك الزاوية من الوجود أرادت أن تفيض إلى الكون وتمتزج به، أن تخفف شدة احتشادها، ولكن الكون أبى ذلك، الدموع لا تسيل، وقلبها لا يفيض، تحاول دفعها فيعيدها الكون إليها. أدركت حينها: الكون مثلي، محتشدٌ ومكتفٍ وود لو أن يفيض، وحين لم يستطع أي منا أن يتخفف بالآخر بقينا هكذا، ساكنين قِبل بعض كلٌ يتأمل ثِقل الآخر، حزينان متساويان في الثقل والأسى.
تحسست كوب الشاي: كم أحسده، يفيض بحرارته إلي ويتخفف. أعلم بأن كل الموجودات هكذا، تبذل أو تأخذ لتستريح وتتزن. وحدي أنا والكون معزولان ولم نختر ذلك. أقبلت بما لدي إليه وردَّه، فكيف لسديمٍ أن يحمل ما عجز الكون بأكمله عن حمله؟
سديم الراجحي

Comments