مشيت على مهلي متأملا الطرق الخالية التي تفضي بي إلى محطة القطار، وخلال تقدمي شعرت بنسائم الفجر النقية تنزلق على وجهي وتلاطف خصلات شعري القصيرة على استحياء بعد حين توقفت عن بعثرة ناظري في الأرجاء وصوبتهما نحو الأعلى بعد إذ رفعت رأسي بطريقة بسيطة، وهكذا انشغلت بتأمل وجه السماء المدلهم وهو يتزين تدريجياً بألوان متباينة متداخلة، تماماً كما في تلك اللوحات الزيتية البهية، في حين انشغلت يداي بحمل أشيائي، حيث في اليمني أمسكت بحقيبتي الجلدية ترابية اللون، في حين أمسكت بالأخرى قبعتي ذات اللون البني المائل إلى الخضرة، وعلى طول امتداد ذلك الطريق لم يعترضني أو يصحبني أحد غير السكون القابع في داخلي.
حين وصلت محطة القطار وجدتها شبة خالية عدا عن بضع أشخاص قرأت في سيماهم الوحدة وبؤس الشعور، ورؤيتهم بتلك الطريقة بدلت صفائي إلى عكرة، رغم عزمي القاطع على المضي في أمري غير أني لم أجد بُداً من قضاء وقت الانتظار هذا في التفكير بوالدي اللذين تركتهما، حزينين كسيري القلب من خلفي.
أذكر جيداً كيف نظرا إلىّ مشدوهين حين بحت لهما برغبتي في الالتحاق بالجيش عوضاً عن إكمال عملي كمهندس معماري، كنا نتحلق حول طاولة الطعام، نأكل عشاءنا بهدوئنا المعهود، سرد لنا أبي في البداية تفاصيل حادثة سرقة وقعت في السوق، فتفاعلت معه بهمهمات بسيطة، بينما أصاخت أمي السمع كأنما لو كان أبي يتلو آيات من الكتاب المقدس...
كنا عائلة بسيطة، شديدة الترابط مكونة مني ومن والدي وأخي الأكبر، وبالحديث عنه فإنا دوماً ما نراه على ذات الهيئة العسكرية والبسمة الرزينة في صورة مؤطرة بإطار خشبي، معلقة في قلب الحائط الأبيض.
نهض أبي فجأة من الطاولة وقد أحدث احتكاك كرسيه بالأرض صوتاً رناناً أعاد تدفق الحياة إلى المنزل، رأيته يلتقط عكازيه ويسير مبتعداً بخطى وئيدة بسبب ساقه المبتورة، وددت بملءِ إرادتي أن أنهض لمساعدته، ولكني أعلم أنه سيرفض كعادته فلم أبرح مكاني واكتفيت بمراقبة ظهره العريض الصلب حتى غاب عنا، زفرت أنفاسي ثم التفت جهة والدتي، ولبثنا هنيهة في صمت قاتل ما بدده شيء سوى صوت أمي المتهدج وهي تقول لي: لا تفعل مثلهما
ولم تتح لي فرصة للرد، بل نهضت بطريقة مترنحة، تجرجر خطاها بصعوبة كالذي يحمل فوق جسمه وزناً آخر بثقله، متتبعة أثر والدي.
أطلقت تنهيدة يائسة ومضيت إلى حجرتي، لم أتوقع موقفاً أسهل من هذا لا ولا أي قدر من التفهم، لا سيما وأنه يفترض بهذا الأمر ألا يكون محل نقاش على الإطلاق، إذ أني تلقيتُ أمراً صارماً من أبي بذات اليوم الذي عاد فيه بمفرده وقد أعفي من الخدمة العسكرية، حيث لا طائل من وجود رجل مبتور الساق في ميدان المعركة، بعدم الالتحاق بالجيش ولا مجرد التفكير بذلك، فتقرر حينها أني سأبقى بعيداً عن ساحات القتال حتى الفناء، غير أني حين سمعت طبول الحرب تُقرع ثار شيء بداخلي، وأثرت على الفور أن ألبي النداء.
لملمت حاجياتي في الحقيبة الجلدية، وقبل أن أغلقها رأيت الصورة المرتكزة على المنضدة بجوار سريري فجذبتها ووضعتها مع بقية الأغراض ثم أغلقت الحقيبة وأمضيت وقتاً طويلاً في محاولة خائبة للاستغراق بالنوم، فاستسلمت ونهضت من سريري لأرتدي قميصي قبل الذهاب إلى خارج المنزل، وأثناء مروري من حجرة والدي استرعى انتباهي صوت بكاء مكتوم فتوقفت أمام الباب برهةً من الزمن لا أدري كم طالت، وفي تلك الأثناء سمعت أمي وهي تشكو بثها وحزنها إلى أبي على هيئة شهقات وعبرات متقطعة، أذهلتني وأخذت بدني كله برجفة قوية إثر وقعها الحامي والمؤلم على أذناي.
انسحبت إلى الخارج بهدوء وشعور الذنب يصاحبني، وصرت أشعر برأسي ثقيلاً جراء انثيال الأفكار المدوّي، وهكذا رحت أهيم على وجهي في الطرقات حتى شارف الليل أن ينقضي، ثم عدت إلى المنزل حاملا معي ذات القرار القائل بالرحيل ولم يزدني عزماً على عزمي شيء حتى هذه اللحظة غير العبارة التي كان يرددها أخي على مسامعي مراراً "لا مجد إلا في الدفاع عن الوطن وحماية العائلة".
- بني
رفعت عيناي عن الأرض بنوع من المفاجأة حين سمعت صوت والدي ينده عليّ فور دخولي المنزل، ثم وجدته يشير لي بناظريه حتى أجلس في المقعد المقابل له أمام الطاولة رباعية الزوايا، وبعد أن فعلت، مدّ ناحيتي كوباً زجاجياً وقال:
- خذ، اشرب
ثم لم يتجلّ صوت غير صوت رشفاتنا الصغيرة وسط الحيز شبه المظلم، في هذه الأثناء كنت أعلم يقيناً أن والدي يبحث في جعبته عن شيءٍ ليبدأ به حواراً معي، ولقد كانت هذه إحدى المرات النادرة التي أرى فيها أبي وقد صعب عليه أن يطرح عباراته بالطريقة التي يشاء، فلطالما كان مفوهاً ماهراً بانتقاء الألفاظ
- أنامت أمي؟
سألته قاطعاً سلسلة الصمت الثخينة، فأجاب دون أن ينظر إليّ:
- بعد أن أنهكها البكاء
زممت شفتاي ولم أعلّق، وهو حين وجدني على تلك الحال قال مغيراً اتجاه دفة الحديث: لن نقف في طريقك
ففهمت أنه قد حاول إقناع والدتي بالأمر الواقع رغم علمه أنها لن تقتنع قط، وأن كلماته لها كانت بمثابة المخدر لروحها حتى تهدأ وحسب، فهمهمت بإيجاب وأخبرته أني سأخرج في وقتٍ مبكر، ثم افترقنا بعد وقت قصير تخلله صمت مريح.
أعادني للحاضر صوت القطار البخاري الصاخب، فنهضت ورأيت المحطة من حولي قد اكتظت بالمسافرين وذويهم، بحثت على مهل وسط الزحام عن والديّ ولم أعثر عليهما حتى سمعت صوت أمي تنادي اسمي بصوتها العذب، فمشيت بخطوات حثيثة ناحيتهما وضممت أمي إلى صدري، ثم همست لها خلاله بأني آسف فهانفت شعري وأجابت أن عد إليّ، وما زال في طيات صوتها بقايا نشيج الحزن.
قبل أن أصعد القطار أخذتُ جسد والدي بين يدي في عناق حار، فبادلني العناق وقد تشبث بقميصي بيد واحدة خلفت من بعده منطقة من التجاعيد، ثم فارقتهما وجزء بداخلي مأخوذ بالوجل، وجزء آخر يشدو "سأصبح جندياً كما كان أبي، وأموت في أرض المعركة كما فعل أخي".
ريوف المقيطيب

Comentários