رن الهاتف:
-ألو.
-...........
-نعم أنا هو.
-...........
-ماذا؟ لماذا؟ أنا...
وضع السماعة وهي مرفوعة ولا زال الهاتف يصيب بكلماته راحته، ويذوب الصوت من سخونة الموقف؛ صدمة أليمة هشمتْ دنياه. تأمل رحابة شقته، وصدره... فنظر متأملا إلى قميصه المعلق الناصع جدا، لاذ لشرفته مذهولا ثم تأمل المنظر من الدور الثالث عشر ثم أسقطَ نفسه.
بيانٌ صحفي:
قتل رجل عجوزا ثم رمى نفسه من شرفة شقته حين تطويق الشرطة للبناية وبعد أن اتصل به المختصون ليسلم نفسه. كانت الأدلة كلها ضدّه، ولا شاهد على الجريمة.

قبل الانتحار بثلاث ساعات وربع:
كان آدم وضيع الحال، كان يكتري غرفة ضيقة بثمن بخس من شخص ذي حال ميسور مستور. يكتب مقالةً تلوَ لأخرى ولا يجد اعترافا من الهيئات ولا تقديرا، ولم يمنح جائزةً قط. آدم رجل لا وظيفة مستقرة له، كان متنقلا بين عمل ومهنة، كان بالكاد يجد لقمة عيشه من عمل جزئي في دكان الأقمشة.
- الأقمشة البيضاء اتركها على الواجهة.
-سمعا وطاعة.
-لا تفتعل الابتسام، إن كنت ضائقا فاجعلني حينها أستقبل الزبائن بنفسي.
-هذا قماش كأنه كفن، يميل إلى الصفرة، لم أحببه!
- أعمل وحسب، ولا تلقي أحكاما.
-لكنه مخيف!
-ولا مشاعرا!
3) عدا تنازليا قبل الانتحار
كان آدم ظنين الأمس وأصبح اليوم دفينا. يمشي آدم في سكك الحيّ حتى وصل لغايته (حديقة الحيّ البهيجة). بعد تحقيقه لغاياته الكبرى ودّ من فرط السعادة أن يقاسمها الكون ليكون كل ما فيه سعيدا مثله؛ جائزة أفضل كاتب شاب، ومديرا تنفيذيا في إحدى شركات التسويق، وقد جاءت له وديعة بنكية من صديق أبيه، مالا وفيرا، وأصبح عزيزًا وظن ألّا ذل بعده. تحول حاله من ظلمات لنور، ومن بؤس إلى سعادة، ومن موت إلى حياة، وظن أنه يقينا سكون هكذا حتى يقضي الله أجله.
-مهلا سيدتي! العجوز تحمل وتضع ما تحمله من فينة لأخرى.
يكرر:
-سيدتي!
-تنظر إليه ولا تتحدث.
ينزل إليها، ويقول بود:
-أحمل هذا عنك؟ ألا أساعدك؟
-بلى يا ولدي، احمله حمل الله عنك وزرا.
-إلى أين؟
-شقتي خلف هذه البناية، وتشير عليها بسبابتها بثقل لا تكلف فيه.
مضى معها حتى وصل لبناية شوهها فأس الزمان، وطول هجران أصحابها.
(2)
-تسكنين وحدك؟
-هل تريد أن تبيت معي؟ تضحكُ بهدوء.
ضحك مبتسما، ثم قال:
-سأقضي معك ساعة إن أردت.. -تشرب الشاي؟
- ما تيسر.
-افتح الباب، بني.
وتمدّ له بصرّة داخلها مفتاح أجرد لا يميزه أي شكل يتعلق به ليحفظه من الضياع بين زحام الأغراض المتناثرة.
يتعجب من هذا ويقطع ذهوله صوتها:
-ألا تشعر بالبرد؟ لم تلبس قميصا أبيضا خفيفا؟
-نحن الشباب لا نشعر بالبرد مثلما تشعرون، أنتم..
وشعر بوقاحة الكلمات فقال مستدركا:
أعتذر، لم أعني...
تضحك العجوز بتقبل.
1)
-أين يجب أن أضع هذا؟
- في الخزانة العلوية..
-وهذا..
ينحني ليأخذ الأغراض لينظمها على الرفوف.
يشربان الشاي معا ويلتقمان الصمت، دقائق وتبتر العجوز حبل أفكار آدم بضحكة مجليّة:
-اعتقدت أن نهايتي حلّت بعد أن رأيت نعيم هذه الساعة. أتسكن وحدك أيها الفتى؟
-نعم، صحيح، لقد أتيت من محافظة ما إلى المدينة طلبا للعيش فكان هو الذي يطلبني.
- أنا لم أرك سوى اليوم وقبل اليوم.
- نعم، كنت مهموما، جلست بغرفة استأجرتها أشبه بوكر عصفور.
-والآن؟
(صفر) الاتصال:
صباحا: 9:36
الشمس تدق بلطف على نوافذ المدينة، والقلب يشرع أبوابه للحياة أخيرا، شقة تتسع لأكثر من خمسة أشخاص، تقع في وسط الحيّ قرب أكثر حدائق المدينة براعة في التصميم... يرن الهاتف:
"ترررن... "ترررررن"
ثم صمتٌ إلى الأبد!
...
الصدمة كانت أشد بأسا من الدروع التي كانت تحمي آدم، الرجل لا يرضى الذل بعد العزة، ولا الفقر بعد الغنى، ولا تشوه السمعة بعد حسن الصيت. آدم كان ظنينَ الأمس دفين اليوم، بتهمة أُلصقتْ على براءته فاعترى الأمرَ تضليلا معتما. ولأن لا شهود في مسرح أحداث الجريمة، ولأن كانت بطاقة هويته وبطاقة عمله قد سقطا في شقة العجوز (والعجوز كانت ضعيفة السمع والنظر فلم تلحظ ذلك أيضا)، ولأن كانت بصمات أصابعه على مفتاح الشقة التي ساعد العجوز حينها في فتح الباب؛ سلبت منه حياته قهرا؛ وكأنه هو سارق المفتاح خلسةً، ومقتحم الحُرمة، وقاتل العجوز. البصمات والأدلة كانت دليلا قاطعا لإدانته.
إذا مات شاهد العيان الوحيد على براءة الرجل، فسيحيا الرجل بلباس الجريمة الذي لا يُنزع، ووجها شريرا مفتعلا لا يُخلع، وسمعة سيئة تطارده حتى الموت. وجزما، سيَقتُل السجن روحه، أو ستحيا النفس ذليلة معه؛ الذل لا تقبله نفس أُكرِمتْ وذاقتْ العزّة.
عائشة الريس
留言