top of page
شعار مداد.png

قلب معقوق

مُمدداً على فِراشه، باقياً من فجرِ ليلة الخميس، ليلتُهُ المخلوقةُ بقداسةِ شَغَفِهِ في الحبّ وفي الكتابةِ، إلى مساء الجمعةِ، لم يُطيُعه جَسَدهُ الثقيل جداً تحت وطأةِ ما كان قد قضَّ مضجعَ صومعةِ ذاتِهِ المُعَمَّرة بياقوت الكلمات ومرمرِ الحبّ والصدقِ والقراءةِ، إلا للنهوضِ مرّة أو مرّتين لقضاء حاجةٍ أو إشباع جوعٍ من دون رغبة.


مُمدّداً بحركةٍ جامدةٍ في أغلب جَسدِه، وببركانٍ خَمَدَ كثيراً، وتاقَ للانفجار فجأةً في فكرِه وخيالِه، لم يكن " أحميدوس" وهذا لقبُه على كُلِّ حال، وهو على وزن "هوميروس" صاحبِ الإلياذة والأوديسا الملحمتين اليونانيتين الخالدتين، وذلك باعتباره كاتباً له سيطٌ وشهرة لا بأس بها في أوساط المتعلمين والمثقفين، ومن خلال منشوراته في المجلات الدوريّة، بالإضافة إلى أنَّ له مكانةٌ يُحسَدُ عليها في مجتمع بيئتِه المُعاشة، وهو في الأربعينيات من عمرهِ، كان مأخوذٌاً بكبوةٍ أرهقت روحَهُ قبل جسدهِ، مُعيِّداً بينه وبين نفسه ما حدث مَعهُ، وما يجب أن تؤول إليه تجربةُ الحياة هذه -التي تفادها في عزِّ شبابه- في عمرهِ الآن.


قصتهُ تبدأ من حيثُ انتهى لقاءٌ له في أمسيةٍ من أمسياتِهِ مع جمهورٍ يلمُ بكتاباتِه، في نفسِّ ليلة الأُمسية استقبل "موبايله" رسالةً أقعدتهُ في حيِّرةٍ موجِعة، تِبعاً للمُرسلِ أو بالأحرى المُرسلةِ وظرفِها، وما سَرَّت بهِ في مضمون الرسالةِ، هذا على الرغم من أن الكاتب "أحميدوس" وبحكم اسمهِ المتداولِ بين جميع فئاتِ مجتمعهِ، كان معتاداً على استقبالِ الكثير من الرسائل، من مُعجبين ومُقدرَّين، لوقوفهِ بجانبهم، ومِن مَنْ قد أسدى لهم خدماتٍ جَليِّة، أضافتْ إلى كونه كاتباً، إنساناً بكلِّ معنى الكلمة، يُحتَرمُ لحدٍّ يفوقُ الوصف، إلا أنَّ هذه الرسالة كانت لُغماً قابلاً للانفجار أيّاً كان الردُّ، وهو المُستَقْبِلُ لرسائل كهذه، حصراً، لكن في ظروفٍ غير ظروف المُرسلةِ، وكان ردُّه لا يتأخر ولا حتى يفكرُ فيه، بحكمِ معرفته العميقة في مكامنِ نفسِّ المرسلات المتقاطعات مع هذه عُمراً، وبحُكمِ ما كان قد غذى به ذاتُه وأخلاقُه بجهدٍ يصلُ إلى حرمانهِ لنفسه من أيِّ متعةٍ ولذةٍ للبقاء كما هو: صافياً، عُذرياً، نَقياً، خالياً من أيِّ شائبةٍ تُعَكِّرُ عليه حياتُهُ أو حياتُه تنقلب عليه، بعد كلِّ ما عاناهُ وضحى به في سبيل الوصول إلى ما صار عليهِ وإليهِ..


مضمون الرسالة أعادَهُ إلى ما كان قد زرع في فكرِه وإحساسه ومبادئِه وحتى تجسيدِهِ، إلى أنَّ للحبِّ أصنافٌ، هو إضافةً على ما قرأهُ في طوق الحمامةِ لابن حزم الأندلسي، وذلك مَرَدُه إلى تجربته ومعايشته لهُ، رغم اتفاق جميع أنواع الحبِّ على أنّه لا سطوة في التخمين متى وكيف ولِدَ هذا الحبّ؟


الحبُّ عند "أحميدوس"، أولاً : حبٌّ مُراهقٌ وقتي، فقط، لمِلء فراغٍ ما أو لتحقيق رغبة ٍ آنيةٍ ما، وحتى هو إحساسٌ معرفيٌّ بحكمِ القرب من المحبوب، طغى، ليُكنى بالحبّ، دون دوامٍ واستمرارية.


ثانياً: حبٌّ غائيي يتولّدُ في المُحِبّ كأيِّ حُبّ، لكن من وجهة نظر المُحِبّ لن يكون حُبّاً ما لم يصل إلى غاية الزواج.


الصنفُ الثالث: حبٌّ عُذري لا يدعو إلى الوصالِ حتى تخيُّلاً! وهو ما كان عليه عِشقُهُ مُجسداً حقيقةً في روحِهِ، ويكمُنُ هذا الحبّ في أنَّ الحبّ كي يبقى حبّاً، لا، بل، ولكي يمتلأ بالمحبوبِ أكثر فأكثر، مهما بَعُدَّت المسافات ومهما مرَّ الوقت ومهما تَبدَّلت الارتباطاتُ حسب مشيئة الحياة، لابُدَّ من فُراقٍّ راضٍّ بين الطرفين، دونَ الوصولِ إلى الحقيقة المُطلقةِ والمُتجسدةِ في العُرِّي زواجاً.


كلُّ هذه العودة؟ إلى ما كان قد حسمهُ من وجهةِ نظره، بَرَّقت أمام ناظريِّه، وهو يقرأ ويُكرِّرُ قراءة الرسالة التي كان مضمُونها:


"أُحبُّك، أُحبُّك منذُ زمنٍ بعيد جداً"


والرسالةُ من فتاةٍ في الثامنةِ عشرة من عُمرِها، مُنفتحة الوجه، بعيونٍ واسعة تَبِثُ نظراتٍ تُخَوِلُكَ للمبادرةِ في التقربِ منها، وجهُها دائريٌّ نوعاً ما وبأنفٍ ليس بالكبير ولا بالوسط يعلو شفتين ناعمتين مُحاصرتين بفمٍ واسع ويُسَوِّرُ كلُّ هذا الوجه وما فيه، شَعرٌ يميلُ إلى الاصفرار، كان "أحميدوس" على درايةٍ كاملةٍ بالفتاة فهو يَعرفُها عِز المعرفةِ، فهي من أشدِّ المُعجباتِ بكتاباتهِ ومنْ أكثرَهُنَّ دلالاً على قلبهِ، لكن، فقط بإحساسٍ مُشترك لمصيرٍ مُجَسَد معها في سيّرةِ حياتيهما، إلّا، أن يصل إلى اعترافِ الفتاة بحبِّها لهُ، وهي تعيشُ لحظةً حاسمةً في مصيرها للولوج إلى حياةٍ مُستقبلية أخرى وأفضل من الآنية، عند تجاوزِها مسابقة العمل التي ستكون انقلاب حياتِها وحياةِ عائلتِها، كلُّ ذلك لَجمَ رَدَّهُ المُسبَّق لغيرِها.


بعد أنْ عاينَ الرسالة مِراراً وأسقطَ مضمُونها على حياةِ تلك الفتاة، قرر أن لا يكون سبباً، ليسَ في كسرِ قلبِها، رغم قدرتِهِ على مُداراةِ إحساسِها وتوجيههِ إلى مَصبٍّ آخر للحياة تِبعاً لعُمرِهِ ووضعِهِ واسمِهِ وتجربتِهِ، بل قرر مُسايرة ذلك الإحساس مؤقتاً حتى يمرَّ ظرفُ الفتاة ولا يكونَ مُلامِاً لِنفسِه ومُحَسِساً نَفْسَهُ بالذنب تجاهِ وثبةِ الحياةِ بالنسبةِ للفتاةِ المُدَّللةِ خِلقةً عِندَهُ. فَردَّ:


"سأجعَلُّكِ تعيشينَّ فيَّ حُبَّكِ"


لم يكن هكذا ردّ إلّا بإحساسِ لحظةٍ في مُعايشةِ الفتاةِ وظرفِها، ولا شفقةً، لم يكن إلا نيّةً صادقةً في الوصولِ بها إلى شغفِها، لكن دونَ أملٍ تَرزَحُ الفتاةُ تحتَ رَدّهِ، كما لم يكن لردِّهِ أيُّ تفاصيل يمكن أن تُعاش أو حتى يمكن تَوَقُعُها أو التخطيطُ لها، هو فقط جارى الكلامَ بالكلام، حتى أنّه لا يتذكَرُهُ إلّا إذا راسلتهُ هي، رُغم توالُّدِ صوَرِّها القديمة ونظراتِها وتأملِها لهُ في لقاءاتِهما الغابرة.


ما لم يكن بالحسبان أنَّ رسالةً وراء رسالة وردّاً بعدَ ردّ بِمثلِ ما أُرسِل، أنَّ "أحميدوس" الكاتب ذو المهابة والسُمعة الطيبة، والمجبولُ من لحمٍ ودم، قد تشتت وتاه وحارَّ، فيما سيوصِله هذا التعاطفُ مع الفتاة ومُجاراتِها، حتى طلَبَت لِقاؤُه وفي اللقاء لابُدَّ من قُبلة!!؟


غمرَّت الدهشةُ والاستغراب وجه "أحميدوس"، لكن حتى هنا وفي هذه اللحظة الآن، لا تزال الفتاةُ تعيشُ تحضيرها لِما سيؤول إليه مصيرُها في مسابقة عملِها ولا يزال كاتبُنا يأخذُ هذا التحضير بعين الاعتبار، فلم يكن له من بُدٍّ أن يُكمِّل ما بدأ بهِ، صواباً كان أم خطأً حتى هذه المرحلة، وقد حدَّد موعدَ اللقاء معها.


كانت الرسائل قبل اللقاء تمهيداً بكيفيتِه، وبكيفيةِ حصولِ الفتاة على قُبلتِها، كون "أحميدوس" الأربعيني متزوجٌ وذو خبرة، وفتاتُنا مراهقةٌ متذبذبةُ الإحساس وغير مستقِرَّهُ، وليست خبيرَةً في القُبَّل بحسبِ رسائِلِها.


حان اللقاء والتقت النظراتُ، كان "أحميدوس" يجدُ في نظراتِها شغفاً يُزيدُّهُ ثقةً بأنّها صادقةٌ في حُبِّها لهُ، لكنها بنفسِ الوقت ونتيجةً لتحكُمِّها في تبدلِها بتبدلِ الشخص المُحدَّق إليه تُزيدُ في شكهِ بديمومة هذا الحبّ اتجاههُ، وهي بعمر الورد، وهو على أعتاب الشيخوخة.


في غفلةٍ من الفتاة أخذَ منها قُبلةً، بحسب اتفاقهما، ألا تعلم هي بوقت ولحظة القُبلة، قُبلتُهُ لها، والتي كانت لا بالطويلة ولا بالقصيرة ، إلّا أنها أذكتْ رعشة لُذةٍ في جسدِه الكهِل ورعشةَ عنفوانٍ في جسدِ الفتاةِ، مُطالبةً إياهُ بإعادة الكرَّة وكانت لها ما أرادت.


غادرا بعضَهما، وبالرسائل يصفُ كُلّ منهما الإحساس المُضافِ من تأثير القبلة فيما بعدها، "أحميدوس" في غِمار لذة تلكَ القُبلةِ، نسيَّ كلَّ شيء وأعطى اللحظة المُعاشة حقها، وغاصَ بكُليتِه في لذةِ القُبلة، رغم ندمهِ لدرجة الاستفراغِ من إحساسٍ بالخيانة تجاه عائلتِهِ، وهو ما لم يتواجد في تاريخهِ الشخصي حتى كنيِّةٍ أبداً، وحتى كنزوةٍ عابِرة، إلّا أن سطوةَ القُبلةِ ولذتِها وشغفِ الفتاةِ وانقلابِ "أحميدوس" تجاوزت كلّ التبِعاتِ، وأُعيدتِ القُبلةُ مرَّةً أخرى وثالثة ورابعة وخامسة، وترافقَ مع بعضها فضولٌ جنسي وكيفية تجسيد "أحميدوس" لهُ من قبل الفتاة طبعاً، دون تجسيدٍ فعليِّ، لحرصِ كاتبِنا رغم لذتِه بما كان قد نوى عند تقبُّلِه لحبِّها، ورغم وصولِ هذا التقبُّل إلى حدٍّ كهذا، لم يدُّر بخلدِه أبداً استغلال عفّةِ الفتاةِ في ضُعفِها، واعتباره مُعايشةَ هذا الحبّ فقط لتجاوزِ الفتاةِ لظرفِها وعدم تأثيرِ هيجانِ مشاعرِها تِجاههُ على تركيزها..


بعد هذه اللقاءات وهذه التطورات، أحكمت الحالةُ نَفْسها على الكاتب، وانطلت عليه بما لم يكن يبتغيه، وأدركَ في نفسه ما كُبِّتَ طوال عُمرِه، مُراهِقاً وشاباً وزوجاً حتى! مُتجسداً الآن بعد أربعينَ سنةٍ من عُمره؟ وصارت حالتهُ هي حاجتُه للفتاة وليس حاجةُ الفتاةِ أو حبِّها لهُ، لكن ما كان فيهِ، غيرُ، ما كان من الفتاةِ رغم أنه كان يحسبُ لما حدَّث معهما فيما بعد.


فقد لبت الفتاةُ وتجاوبت مع إحساس كلِّ مَن تودَّد إليها غيرُ آبهةٍ ما تفوهت بهِ حُبَّاً أبدّياً وحيداً وشغفاً حتى الموت "لأحميدوس" وفي كلِّ وقت، وحسب مفهوم "أحميدوس" للحبّ يُصدقُها، إلّا أنّها بعدَ أقل من خمسة أشهر فقط، كانت بنظراتِها الشَبِّقة، تُعيدُ الحبَّ بأشكالٍ أخرى، لآخرين، راميةً قُبل "أحميدوس" وأحضانِه ولُذتها معَه والأهم حبَّها، وراء قلبِها، تاركةً "أحميدوس" يعيشُ ضياعَه رغم شعارِه الحياتي: أنَّه مهما كَبُر الإنسان فإنه يبقى يتعلم، لكن في حالتِه هذه ومع فتاة تصغُرُه بعشرين سنةٍ، وهو غير مُصدقٍ لمّا آلت إليه العلاقة، ولمّا آلت إليه حالتُه من تشتُّتٍ وضياعٍ وثُقلٍ، هذا غير الإهانةِ ونُكران الجميل من الفتاة التي أكدَّت لهُ ببرودٍ تام بأنَّها لم تعدّ تحنُّ لمُكالمتِه أو مُراسلتِه أو لقاءِه ولا حتى ذلك الحبّ، حُبُّها يتردّدُ عليها إلّا أحياناً، وإن تردّد كان فاتراً، هنا تَجمَدت أوصالُ كاتبِنا، وتجمدَ فكره وخُدِّرَ إحساسُه، الذي كانت الفتاة فيه انقلاباً مُفاجِئاً له ولدواخلهِ ولذاتِه التي كانت مبنيةً بقرميدِ الصلبِ والمنعِ.


تجاهُلُ الفتاةِ وبرودة لهفتها، وتخيُّلِه هو للُذةِ لقاءاتِهما وخيانتِه هو لذاتِه، أثقلتْ على فكرِه وأثقلتْ على جسدِه هماً وغماً وحُزناً ويأساً ومُتمنيِّاً الموت، لكن رويداً رويداً بحُكم عدمِ اعترافِه بالندمِ وإنمّا بالخطأ، أعادَ إلى نفسِه أمارَّة السوءِ فيها، وسطوةَ النزوةِ حين تتحكمُ في المرءِ، أيّاً كانت قوتُه.


مَكَث في الفراشِ مُمَدَّداً ثقيلاً، حتى استفسر من الفتاةِ، وذلك بعدَ نجاحِها في مسابقتِها، عن حنينٍ ما اتجاههُ، وعند إجابتِها بأنّ شغفها لهُ لم يكن حبَّاً وإنما رغبةً، أو ربما تحولَ إلى رغبة رغم إرادتِها، عادَ هو إلى نفسه، بأنَّ عيشَه لسعادةِ الآخر قد خانتهُ كمّا كُلّ مرَّة، وأنَّ ما مرَّ به، كان فوق طاقته، بحسب ما عاناه من حرمانٍ وكبت، واعتبر أنَّ لكلِّ امرئ انحناءةٍ ما، أمام عاصفةِ الحياةِ الهوجاء، ولم يغفَل بأنَّه المُلام الأول في تحوُّل هذا الحبّ إلى رغبة، لأنّه جارى ما لا ينسجمُ مع قناعاتِه في الحبّ.


ولكي يخرُجَ من هذه المِحنةِ نَفْساً وجسداً قويين، ومن ثم نقيّين، بعد إزالةِ الشوائبِ عنهما، واجه نفسَّه كإنسان يَسقُط أو يُسقَط من قبلِ عقلٍ وإحساسٍ ما، لكن إنْ كان لابُدَّ من تجاوزِها، كان لابُدَّ من الاعتراف بمكامِن الضُعفِ فيه، ومن ثم القيام بسدِّ الثقوبِ الكثيرة في روحِه وجسدِه، بعد هذه الفتاة، واعتبار ما مرَّ به، نزوةً قوَّت من عُذريته فيما عدا ما هو حقٌ له، وصدقه مع الآخرين، ولم يكن انجراره إلّا بمّا يضفيه عليه ضميرُه ووقفتُه المعروفةِ تجاه الآخرين، لكن جُرحاُ ما يبقى ويُضاف إلى الجروح الموزَّعة فيه، في حياةٍ جديدةٍ غير مُميتةٍ وغير مُنتصرٍ، فيما لو نهض إلى ما كان عليه قبّْلاً.


غمكين مراد | ريث.تك




٢٣ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل
مشاعر

مشاعر

Comentarios


تم الأشتراك في القائمة البريدية

  • Twitter

جميع الحقوق محفوظة لمبادرة "مِدَاد" 2020

bottom of page