"إن كنتِ تريدين مني أن أؤدبها فلا توقفيني حين أقسو عليها. أوكلّما حاولت تأديبها، أقحمتِ نفسك، وتركت ابنتك تنجو من عواقب أفعالها".. سمعتُ هذه الكلمات تخرج من فيه الرجل الواقف أمامي، لم أخف انزعاجي من الأسلوب الذي يتحدث به.
"ما زالت ابنتك طفلة، لا تقسو عليها". ردّت امرأة مسنة تظهر على ملامحها آثار عمر من الخوف والأسى.
قال: "أسلوبك في تربية هذه الطفلة جعل منها منفلتة تتسكع في الشوارع. أتريدين منّي أن أصلحها أم أتركها تلطّخ سمعتنا في هذه المدينة؟"
قالت: "أرجوك، أنت أبوها، لا يشتد غضبك عليها"
خرج الرجل من عند زوجته مندفعا، تخطى الردهة وغرفة المعيشة، واتجه صوب المطبخ.
لحقتُ به مسرعًا دون أن أدرك ما الذي أفعله في هذا البيت. لا يبدو أن أحدًا من العائلة قد انتبه لوجودي، إما أن هذا الشجار قد سلبهم عقولهم أو أنني قد أصبحت كائنا لا مرئيا.
على طاولة المطبخ، رأيت فتاة شابة، بالكاد تبلغ السابعة عشر، تأكل من فطيرة وُضعت أمامها.
"ضعي أكلك من يديك". قال الرجل الذي كان يصرخ للتو على زوجته.
قالت دون أن ترفع نظرها عن الفطيرة التي أمامها: "لماذا؟ ما الذي تبغيه هذه المرة؟"
قال منفعلًا: "لعلك تحسبينني سأسكت عن وقاحتك في هذا البيت، مثلما يفعل الجميع، ولكنني أعرف كيف أقوّم أفعالك". أمسك بها من معصمها، فانتفضت إلى الخلف، دون أن تتمكن من الإفلات من قبضته.
قلت: "بالله عليك. خلّي سبيلها" دون أن يجيبني.
قالت الفتاة: "إن لم تتركني فسأصرخ بأعلى صوتي، وأوقظ كل الجيران"
قال: "اصرخي، ولله لأجعلنك تندمين على ولادتك في هذا البيت"
صرخت الفتاة بأعلى صوتها مستنجدة بأمها، دفعها بقوة فارتطمت بالحائط من خلفها.
جننتُ لذلك وشعرتُ بالدوار، بدأت الفتاة بالبكاء.
قال: "ولله إن عدتِ إلى مثل هذه الأفعال، فسأجلدك، في هذا المطبخ، جلدة تذكرينها ما بقيت روحك في جسدك". وخرج من الغرفة.
انقطع الصوت في الهواء، بدا وكأن هواء البيت قد تعبَ لطول ما حمل من صرخات.
شعرتُ بأنفاسي تتقطع، نظرتُ إلى الفتاة ترتعش على الأرض، كقطة صغيرة خائفة؛ لم أجد ما أقوله، وما الذي تجديه الكلمات حين يؤذينا من نلجأ إليه لحمايتنا.
وقفتُ عاجزًا أتأمل الجدران الصامتة حولي. أدركُ الآن لم شيّدت بيوتنا من الإسمنت، حتى لا تتسلل صرخاتنا خارجها.
صالح الوكيل

Comments