في مدينة المعرفة، حيث كان العلم يجول الشوارع، فيشرب قهوة المغرب مع الفلسفة، والتي تسهر ليلًا بمعية الأدب والقصائد، ليذهبوا صباحًا إلى مجلس التاريخ مع المنطق والفكر واللغة، عاشوا قرنًا من الزمان في جو متخم بالثقافة، حمل الجيل الأول لواء الفكر وأعلاه علوًا مبينًا، إلا أنهم احتكروا علومهم على مجالس نخبوية، ولم يشركوا أحفادهم في الجو الثقافي الذي هرم معهم، فاكتسب الأحفاد هوية أسلافهم السطحية وخسروا علمهم، فنشأ جيل مستثقف ومتعالم، يتبنى آراءه بسهولة، ويتعصب لها ولا يتركها إلا بشق الأنفس.
وحينئذ ظهرت أسواق للأفكار، منها دكان الحكمة الذي كان يبيع التسرع، ودكان القصائد الذي باع قصيدة النثر، ومتجر اللغة الذي يبيع ألفاظًا أعجمية، وأما التاريخ.. فكان يبيع الكذب، وراجت كثيرًا هذه الدكاكين رغم محدودية أفكارها.
ومهما تعددت الأفكار فهي تصب في صالح تيارين متطرفين كل منهما يغذي المتلقي بما يجعل ولاؤه منقادًا تمامًا له، حتى ضاعت المعرفة، وتشوهت الثقافة في المدينة.. ما عدا فلان، الذي استقى أفكاره من وصايا جده ومكتبته العريقة، فكان مختلفًا ومنبوذًا، لأتباعه آراء وتوجهات تخالف العامة من كلا التيارين، كان منطويًا على ذاته، مستوحدًا لا صاحب له، كان يصون أفكاره وآراءه، يمحصها ويختار أين يكون بعناية.
وذات يوم نشبت الحرب بين الحزبين، والتقى الجيشان وأخذوا يتراشقون سهام التهم وما من دروع فكرية تردها، فساد الهرج والمرج بينهم وتعالت الصرخات بغير منطق، حتى دخل المدرع الوحيد في ساحة المعركة، مجاهدًا لرأيه وعلمه، كان يصيب بالسهم إن رمى ولا يصاب، ولدرعه صلابة ترد سهام الأعداء إلى صدورهم، فماتوا جميعًا، وتلاشت الأفكار.. ولم يبق إلا المفكر.
همس الزيد
Comments