top of page
شعار مداد.png

مرآة أنيل

كم آمنتُ بأن جمال اللحظات يتخلد بذكرى ساحرة ، وتلك الذكرى تتأصلُ لتكون أساسا راسخا في النفس لأمدٍ بعيد كما في حديقة منزلنا المفعمة بالحياة بين تلك الأجواء الجميلة والمبهجة التي أشعر بالسعادة بها إثر حضور جميع من أحبهم بحفلة تخرجي الصغيرة ، رفرفت روحي كطير في غمرات الفرح، إنها ذكرى حتماً لا تنسى!


اقتربت نهاية الأمسية وبدأ التعب يدب في جسدي، أخبرت والدتي بأنني سأنصرف لداخل المنزل قليلاً، بينما أنا أسير نظرت إلي شقيقتي وعيناها تغرق شيئاً فشيئاً حتى تراءى لي انعكاسي بلمعتهما ابتسمتُ لها بدفء وذهبت، عينا تلك الطفلة حكاية لا أعلم هل أسرح بجمالهما العسلي المتحفف بالسواد أم بما تسردُ لي إياه من حديث؟


وبينما أنا متوجهة إلى الخارج قطع حبل تفكيري دهشتي لرؤيتي "الينا" وهي تقف أمام القبو ملقية ظهرها لي، ما دفع فضولي هو رؤيتها تخطو أولى خطواتها للأسفل، ماذا ؟ كيف ذلك ؟ القبو مقفلٌ منذ انتقالنا!.


ازدادت سرعة خطواتي بذلك الزقاق الطويل مترانمةً مع تقطع أنفاسي، حتى وصلت وأنا أحبس بجوفي الكثير من التساؤلات، وقفت على عتبة الباب لأرى موجة من الظلام الدامس تكتسح أسفل السلم تقطعه إنارتان خافتتان عُلقتا بجانبي الباب، اقشعرّ جسدي من ذلك الهبوب البارد الذي ينبعث منه: هل أنا في تابوت؟ هذا ماقلتهُ لنفسي وأنا أقف أمام باب آخر عتيق الطراز أسفل السلم عكس الباب الخارجي لهذا القبو، أدرت مقبض الباب لأرى سرداب طويل قد أضيئ بنفس الإنارة ممتد على مد البصر، وفي نهايته باب كبير لم تتضح لي معالمه جيداً لبعده، وما إن هممتُ بداخله فإذا بالباب الذي خلفي قد أُغلق، تسمرت بمكاني فدوي الصوت بالمكان كان أشبه بصوت الرعد في عاصفة شديدة الرياح.


ارتعشت قدماي وهي تنقاد لصوت الأنين خلف ذلك الباب، اقتربت منه والأنين يزداد أكثر، لا أعلم لمَ كنت حينها أفضّل لو أن الوقت يتباطئ بدلا من التسارع، لسبب ما كنت أخاف من المجهول رغم علمي بأن أختي بلا شك خلف هذا الباب، تداركت نفسي حينما تذكرت أنها تفكر بالهروب، مددت يدي أخيراً لأفتحه، قشعريرة كالكهرباء سرت في جسدي كله..


غرفة قديمة برائحة غريبة، ورق حائط ممزق كادت تختفي نقوشه، أوراق متناثرة في أرجاء المكان، لكن ليس ذلك ما أرعبني..

في ركن الغرفة المظلم تمركز سرير مهترئ ذو أغطية بالية فوقه يقبع مصدر الأنين بالفعل.. امرأة!

التفتت لي بنظرها الذي غُرِس بجسدي كقطع من الجليد لتقول: أرى بأنَ لدي ضيف غير متوقع الليلة؟

ارتعدت من نبرة صوتها الرقيقة الممتعضة، لتكمل: كيف وجدتني على أية حال؟

أجبت : لقد أتبعت صوت الأنين فحسب.. لمَ أنتِ هنا؟

قهقهت بصدى عالٍ ثم أجهشت بالبكاء: لم أتوقف يوماً عن الأنين إنها لمعجزة إذاً بأن تجديني.. أنتِ أخبريني لمَ تقفين الآن بمنزلي؟ أو بالأحرى زنزانتي..

رفعت أيديها لأراها مكبلة بحديد صدىء بعدما أشعلت المصباح الخافت حولها.. تراجعت للخلف من هَول ما رأيت..

شعرها الطويل ملتف حولها، ملابسها البيضاء الرثة قريبة للسواد، كيف حدث كل هذا، أين إلينا؟ وكيف لم ينقذ أحد تلك المرأة.. تمتمت بصوت مختنق: من فعل بكِ كل هذا؟

-لا أستطيع أن أخبرك بذلك ..

-أخبريني باسمكِ فحسب.. أريد أن أحررك حالاً ..

-اصمتِ! إنه آتٍ الآن لا أستطيع فعل ذلك، وإن كنتِ تبحثين عن إلينا فهي مختبئة في تلك الخزانة..

اندهشت، ماذا تقصد باختبائها! وكيف علمت باسم أختي! ما إن خطوت نحوها حتى همست: انضمي لها سريعاً..

ها هو آت.. انفتح الباب بقوة والرعب يتغلغلني: أبي! وبيده فأس صغير لأسقط على صرخات عالية، لا أستطيع أن أنقذها أبي.. أبي الفاعل ..

غرق في دوامة من الظلام.. حيث لا أرى نفسي.. هائمة في الفراغ..

صوت ناعم انساب باسمي: أنيل .. عزيزتي ، استيقظي ..*

فتحت عيناي ببطء لأرى أمي وهي تمسح برفق على شعري، لتبتهج وتقول: هذه جميلتي قد استيقظت..

ابتسمت بخفة وأدرت بعيناي لأرى إلينا بدميتها على الكرسي المقابل أمامي، فابتهجت أكثر..

اقتربت مني إلينا، وأنا مليئة بالتساؤلات والقلق: إلينا هل أنتِ بخير؟ هل أخبرتي والدتي بذلك؟ يجب علينا أن نُسِرع لا يجب أن تبقى المرأة أكثر من ذلك!

-لا يجب أن تخبري والديّ بذلك.

_لكن تلك المسكينة ستموت إن بقيت لوقت أطول!.

كنت محتارةً حقا لم إلينا لا تريد من أمي أن تعلم ؟ بل كيف علمت إلينا بتلك المتواجدة بالقبو؟

وما هي إلا لحظات حتى أتت والدتي والطعام بيدها لتقول: حان وقت عشائك ..

_ما خطبك يا عزيزتي؟ هل الطعام سيء؟ تساءلت والدتي فأنا لم أضع إصبعاً واحدًا على الطاولة، رددت: لا أشعر بالجوع.

_هل أنتي متعبة؟ هل أجلب لك طبيبًا؟

_لا حاجة لذلك يا أمي في الواقع أود سؤالك عن شيء، لتنطق والدتي بكل قلق: ما الأمر عزيزتي أنيل؟ أتريدين أن أنام معك الليلة؟

_لكن ليس هذا ما أردت قوله أنا أريد الاستفسار عن ... بتر حديثها صوت إلينا وهي تقول بصوت خفيف: أخبرتك أن لا تتحدثي بشيء ، تعالي لننام ثم بالغد سأخبرك بسر. تلك الهمسات الخافتة في أذني جعلتني أصمت..


تصرفات إلينا المفاجئة تجعلني أفكر بعدم التحدث حول الموضوع معهما مجدداً ، صعدت إلى سريري الذي يتسع لشخصين، حسناً أنا لست سمينةً لكن إلينا تحب النوم بجانبي لذلك هي لا تملك سريراً، حتى أنها تشاركني خزانتي وملابسي، فتاةٌ عنيدة لكنها تحبني وأنا أفعل المثل.

أراها تقترب نحوي تحت الغطاء كالعادة تنظر في عينيّ مطولاً ثم تهمس لي بكونها تحبني وتغفو. لم يزر النوم عيني منذ مدة، فما زال مشهد اليوم يحلق أمامي، أسمع صوت خطوات في الممر لا أعلم أنها والدتي..

وبعدها حل صمت مريب لم يسمع فيه سوى صوت أنفاسي، قرر حينها النوم أخيراً أن يزورني ويريح تفكيري.


[تركض في ممرات المنزل وهي خائفة هناك شخص يطاردها لكنها لا تراه ، تعثرت بالسجادة التي أمام الباب وما إن رفعت رأسها حتى تبين أنه باب القبو، بدأ صوت الخطوات يقترب فلم تجد حلاً سوى النزول للأسفل وأول من قابلها كان والدتها وتلك المرأه المقيدة وإلينا المربوطة بجانبها وتنظر برعب لأنيل، أحد ما أمسكها من الخلف ولم يكن وجهه واضحاً دفعها للأمام فرأت السرير وهناك دماء تملأه، مشكلة مساراً يصل إلى تلك المرأة، التفتت برأسها لترى الفأس في يد الرجل يسحبه على الأرض مُصِدراً صوتا حاداً ومزعجاً، رفع الفأس وأنزله بقوة..]


استيقظت من ذلك الكابوس المرعب والعرق يقطر من جبيني، ما الذي رأيته يا الهي؟ كل شيء كان مرعباً، يجب أن اسأل إلينا عما جرى، نظرت بجانبي وأخيراً استوعبت أنها تنظر نحوي بقلق لتقول: ما الخطب هل أنت بخير ؟


_ أجل لا عليك مجرد كابوس مرعب، أريد سؤالك عما جرى ذلك اليوم.

صمتت هي لمدة وكأنها تغرق بأفكارها وبيدها تلك الدمية التي ترافقها أكثر مني شدت يديها حولها ثم أردفت: حسناً لقد أخذنا والدي للأعلى بعد أن أغش عليك... وأنا كنت مغمضةً عيناي أدعي الإغماء لأنني خفت أن يفعل بي ما فعل بتلك السيدة.

_ ماذا تعنين ؟ هل أبي هو من سجنها بتلك الطريقة المريضة ؟

الدهشة تعتريني لا أصدق أن أبي الرجل العادل والحنون الذي لم ينادي أحد باسم يسوءه قد يؤذي امرأة بهذا الشكل!

_لا أدري لكنني شاهدته عدة مرات ينزل للأسفل منذ انتقالنا وحينما نزلت وجدتها أمامي وقد أخبرتني أنها مسجونة هنا منذ زمن طويل جدًا .

_ من هي ألم تخبرك بشيء آخر؟

_ لقد أتيتي في ذلك الوقت وأنا لم استطع معرفة المزيد..

تسائلت بداخلي، لكنها كانت مندهشة من وجودي وكأني أول شخص تراه! يجب علي أن أتحدث معهما، نزلت من سريري وعينا إلينا تتبع حركتي لتقول بنبرة غير راضية: إلى أين ستذهبين؟

-يجب أن أعلم ما يجري خلف ظهورنا، لا أستطيع الوقوف هكذا!

-أخبرتك أن هذا الامر خطير لربما يقومان بتقيدنا معها بالأسفل.


فور إنهاءها لكلامها مر طيف ذلك الحلم ليشل أوصالي، هذا الاحتمال وارد وبقوة أعني إن كان والدي حقًا من سجنها فقد يفعل المثل معنا، نزلت لأقابل وجه والدتي البشوش يا لها من مسكينة زوجها يقوم بالمصائب من خلفها وهي تحاول إسعاده..


صوت جرس المنزل.. أعتقد أنه السيد جون عامل التوصيل هل من الممكن أن تحضرين منه مشترياتنا؟

أومأت واتجهت للباب رأيت إلينا تريد الذهاب معي فقمت بإخبار أمي أني سأخذ إلينا: مساء الخير سيد جون، ألقيت التحية على السيد العجوز قد كان يعرف والداي من قبل انتقالنا ولذلك خطر ببالي أن أطفئ غموضي بعض الشيء لأقول: سيد جون هل تعرف من كان يسكن منزلنا قبل أن ننتقل له؟

أجابني ووجهه مرسوم عليه أمارات الحيرة: لكنكم تسكنونه منذ ولادتك يا صغيرتي.


أعتقد أنه بدأ يخرف فنحن لم نكمل أسبوعين منذ انتقلنا لهنا لكنه فجأة وضع يده على فمه وهو يرتجف ثم أخبرني أن لديه عمل طارئ ليقوم به،كان الأمر غريباً لكن لا أبالي.. وضع كيسان كبيران بالأرض ورفضت إلينا مساعدتي بحجة أنها تحمل الدمية الخاصة بها دميتها لطيفة دب باندا في وسطه مرآة على شكل قلب وعلى يده مكتوب اسم إلينا، كم تحب تلك الدمية!


عدنا أنا وإلينا لنجد والدتي تتصفح ألبوم صور قديم لأتساءل: من هؤلاء ؟

تجيبني بصوت يملأه الحنين: هذا البوم عائلتنا القديم هذه الصورة هي لجدتك وهاتان هما والدتي وخالتي روز توأمان كما أن هذه العجوز الأخرى التي تقف بجانب جدتي هي توأمها، قلبت الصفحات ورأيت طفولة جدتي ثم زواجها وإنجابها لامي لنصل إلى صورة لوالدتي بجانب فتاة تشبهها تماما: أمي من تلك التي تقف بجانبك؟

ردت:إنها توأمي بيلا لقد كانت رقيقة وجميلة لكنها عنيدة بعض الشيء وهذا ما كان يجعل والدي غاضبًا عليها دومًا لكنها قد توفيت في حادث مريع.. تفاجأت حقا فقد اتضح أن عائلتنا تشتهر بإنجاب الفتيات التوأم ولكن خطر ببالي سؤال: ماذا عنا يا أمي لما ليس لدي توأم؟


ضحكت والدتي بتلك النبره القلقة لتقول: ماذا تعنين صغيرتي، ثم هل أحضرتي الأشياء التي طلبتها من السيد جون؟

أخذت الألبوم معها دون أن ترد على سؤالي وذهبت، تتركنا نحدق بغرابة فما الذي جعلها تنهي الحوار وترحل بهذا الشكل؟سمعتها بالليل تحادث والدي وتخبره أنني لست على سجيتي وما سمعته منه قد صدمني..

_مالذي سنفعله يا روفر هي نزلت للقبو تلك المرة وباتت تفكر بالنزول إليه مهما حاولت أن ألهيها عنه يزداد فضولها عن كل ذكرى حولها وأخشى أن تعرف..


_تباً ، لقد علمت أنها ستفكر بالنزول لهناك لكنني اعتقدت بأنها ستنسى بعد أن بقينا نضع ذلك الدواء لها لاسبوع!

مهلاً ما الذي يهذي به؟ أسبوع؟ هل بقيت فاقدة الوعي لأسبوع!!، عدت للأعلى والدوار يلازمني أردت أن أخبر إلينا لكن لم أجدها بحثت عنها وعن دميتها فهي تلازمها دوماً، خرجت للحديقة الخلفية لعلي أجدها لكن ما وجدته فاق توقعاتي ،لقد كان باب القبو مفتوحا ًتوجهت سريعاً له وبحذر وما إن دخلت حتى قابلني مشهد مألوف جدًا..


إلينا مربوطه بجانب تلك المرأة لكن لم يكن هناك أحد بالقبو عداهما صوت الخطوات خلفي جعلني أختبأ في الخزانه رأيت والدي ومعه ذلك الفأس من الحلم، وفور اقترابه سمعت صوت صراخهما المكتوم، اختفت الضوضاء بالخارج فجأة لكنني خشيت الخروج لمحت إلينا تومئ لي لأخرج لكن ما إن حاولت الهرب لطلب النجدة حتى وجدتهما على الدرج، صرخت بقوة وعدت للأسفل لأرى الدماء تملأ المكان، ذلك السرير المهترئ يحمل جثتيهما الغارقة ببحر احمراره يقف لهوله شعر الأبدان، حاولت إيجاد شيء لادافع عن نفسي به، وحالما أمسكت بذلك المنشار القديم حتى شعرت بإبره توخز برقبتي وآخر ما لمحته كان سقوطي عند أقدام والداي.


الخوف، الألم، الحزن، الوحدة، أحاول فتح عيناي بصعوبة لأجد كل ما حولي أبيضاً، جدران، سقف و أرضية جميعها بيضاء، غرفة ضيقه لا يوجد بها لا نوافذ ولا أي وسيلة للخروج لكني أعتقد أن هناك باب في أحد تلك الجدران الناصعة على عكس ضيقها، الهواء بات يحرق رئتاي لا ينعشها، أعتقد أنني مت أو أنني أصارع الموت كالعادة في كوابيسي، فالمكان ليس غريباً كما لو كان قطعة أحجية ووجدت تكملتها، يفتح الباب ليدلف الطبيب بمعطفه الأبيض، تقدم ليجثو ناحيتي وقد تفحص نبض يداي وللتو انتبهت أن يداي مقيدة، ما اللعنه التي تحدث هنا؟ صرخت لأقول له: أين أنا؟ ولم تقيدني هكذا؟ أخبرني ماذا يحدث!!


قال بصوت جامد : عليكِ أن تهدئي آنسه أنيل الانفعال الزائد سيضطرنا لاستخدام المهدئات مجدداً.. لقد عدتي هنا مرة أخرى بسبب عدم تقبلك للماضي أو نسيانه وهذا ما أودى بنا لخيار عزلك ، والداك وقعا بالفعل على أمر موافقتهما... ما الذي تهذي به أيها الغبي أتعي ما تقوله حتى؟ هذان المجرمان قتلا امرأة وطفله في التاسعة لقد قتلا شقيقتي الصغرى!!


فتح الباب مجددًا لأشعر بالغثيان من مقدار ارتعابي وقرفي، فمنظر تلك الجثث الغريقة بدمها لا يبارح ذهني، ويا للصدفة الجحيمية فهاهما أمامي: اخرجا أيها القاتلان! لساني الخامل استطاع بصعوبة النطق بتلك الأحرف التي أدرك أنها لن تحرك في داخل قاتل ولو شعرة، الازدراء هو كل ما تحمله نظراتي لهما وتلك التي تدعى والدتي تحمل بيدها.. إلينا! دمية شقيقتي المسكينة التي هتكت برائتها وطفولتها بلا ذنب، لم قتلاها؟ لم؟


تذرف عيناها دموعاً وهي مستمره في النظر لي، أتشفق عليّ؟ نطقت والدتي بصوت مرتعد: أنيل صغيرتي أرجوك استمعي لنا جيداً صدقيني نحن مجبران على إعادتك هنا.. شهقاتها العاليه تجعلني أود البكاء حقاً لم عليها أن تشعرني بالذنب وأنني من ظلمهما هنا؟ ماذا عن صغيرتي إلينا لمَ لم تبكي عليها وهما من قتلاها بدم بارد؟

قلت في حضرة تلك العبرات الخانقة :لم قتلتماهما؟ هل كنتما مجبرين أيضا؟

_لم نقتل احداً أنتِ فقط ... فقط تهذين مجدداً، ما حصل كان صعباً على الجميع ونتفهم سوء حالتك لكن لقد مرت عشر سنوات بالفعل إلى متى ستظلين هكذا؟


ترتمي بأحضان أبي منهارةً بعد أن جعلت الوقت يتوقف بعقلي، عشر سنوات؟ على ماذا بالضبط؟ الصداع الحاد والطنين العالي يشوش رؤيتي، ألتقط أنفاسي بصعوبة، أستمع لما ينطق به أبي وذلك الطبيب، تشاركهم والدتي بضع كلمات وتعود للبكاء. أحدق بالدمية غير مصدقة لما يتلى عليّ فهذه هي الحقيقة الأمر على الإطلاق، إلهي أرجوك قلبي سينفجر من سهام الخذلان الكبيرة أنظر للسقف وكأنه أهم ما بالوجود، فور أن هدأ صوت نحيب أمي وتبريرات أبي انزلقت تلك الدمعة اليتيمة من محجر عيناي تمنيتها أن تنزل بأذني لعلها تغسله من أتربة ما سمع..


ذكرى شابة طائشة تزوجت بمن تحب ليصبح مجنوناً لشدة حبه لها فيقيدها بقبو منزله وأثناء حملها أرادت الهرب فضربها بشدة ووضع تلك القيود الحديدية على معصميها، أنجبت توأماً كحال جميع عائلة ناور، ظنت أن زوجها سيصبح أفضل بعد الإنجاب لكنه زاد جنوناً وحبسهما معها، مرت تسع سنوات على حبسهم يفك فقط قيد الفتاتين للتجول في البيت، لتحاول إحداهن الهرب وفور عودته قيد الأخرى مع والدتها على السرير وصعد للأعلى للبحث عن الطفلة الهاربة والتي صادف نزولها للقبو أن تشهد على جريمة بشعة الضحية فيها طفلة تبلغ التاسعة وسيدة في عقدها الثالث خرجت آخر أنفاسها وهي تحيط بجسدها الضعيف جسد ابنتها التي خسرت حياتها، انتحر الزوج أمام الطفلة التي لم تستفق بعد من ألم الصفعة الأولى لتصفعها الحياة بالأخرى، لم تكن تلك إحدى قصص ما قبل النوم، بل كانت مأساة عشتها بالكامل لأنقل بعدها لمستشفى الأمراض العقلية بعد أن تبنتني خالتي وزوجها ليكونا جزءًا من علاجي الذي دام لعشر سنوات..


اخرج بعدها للعالم لأعود لذلك المنزل معتقدةً في داخلي أنني انتقلت له حديثا بينما هو يحمل حزني وألمي وفقداني لروحي بداخله، الأدوية والحقن لم تمحي أخطاء السنين بحقي؛ لكنها وضعت على قلبي المحطم لاصقات جروح، لا أصدق أن العشر سنوات لم تكفيني لدفن كامل أحزاني، لكن لا لوم عليّ، فكيف للمرء أن يدفن روحه ويتوقع من جسده الحراك، كيف لي أن أعتقد أن الوقت دواء الصامدين.. إلينا هي تلك الطفله التي ماتت منذ عشر سنوات.. نعم هي توأمي وأنا التي كانت تنظر لها دوماً كشقيقة صغيرة، الأمر منطقي لكنني أستصعب تقبله كصعوبة تجرع السم، سرير واحد، خزانة واحدة، ثلاث مقاعد على مائدة الطعام، إلينا لم تكن تعيش إلا بداخلي فارقت جسدها لتسكنني، أحمل دميتها بكل مكان وأحدثها فتختفي من أعينهم نظرات الاستغراب، الكل كان يعلم عداي، الكل يدرك أن إلينا ماتت لكنني أحمل دميتها معتقدة أنها لم تبرح جانبي، ذلك الكابوس المريع لم يكن سوى شاحنة صدمت ذاكرتي لتعيد مشهد ذلك اليوم البائس الذي خسرت فيه كامل أسرتي وأنا اقف وحدي، ظلمت خالتي وزوجها رغم علمي أنهما أحباني بحق وكأنني ابنتهما الحقيقه، إلا أنني خذلتهما، لقد احترقت وانطفأت واندثر رمادي مع رياح يوم ممطر، لقد اشتد تعبي حقاً حتى تخدر جسدي من قوة الألم، سمعت الطبيب يزف لهم الخبر بنبرة متألمة: أعتذر منكما لكنها لن تخرج من المصحة مجدداً فلديها فصام بالإضافة لهلوسات بصرية بسبب الصدمة التي لم تتخطاها..


*بعد ست سنوات*

ها أنا أخيراً أخرج من ذلك المكان الموحش، أدرك حقا لما الكثير ممن يدخلونه لا يستطيعون التغلب على أمراضهم والخروج فالدخول هناك مرض آخر، أنظر حولي بسعادة فقد اشتقت للهواء الطبيعي بعيداً عن تلك المهدئات ورائحة المعقمات، أجدهما أمامي لا أميل إلا عليهم فهم سند لا يميل، أنطلق لحضنهما بشوق متلهفة لبدء حياة جديدة حتى لو لم يكونا والدي الحقيقيين..

_مستعدة يا جميلتي أنيل؟

_بالطبع لننس الماضي ونصنع لنا مستقبلاً جديداً، ألست محقه يا...إلينا؟!


صالحة القحطاني

طرفة الصوينع

حفصة العلي




 
 

コメント


تم الأشتراك في القائمة البريدية

  • Twitter

جميع الحقوق محفوظة لمبادرة "مِدَاد" 2020

bottom of page