توقفت سيارة أمام ذلك المنزل الذي تستند على جداره نخلة، أخذ يتجول في حديقته التي هلك معظم ما فيها ما عدا تلك المستندة. ويسترجع صور ذكريات تأخذه إلى فترات مختلفة من حياته. هجر المنزل منذ ستة أشهر، حيث فتك المرض ما تبقى من والدته، عيناها المليئتان بالحنان أصبحتا خاويتان من الحياة، مليئتان بالتجاعيد وآلام السنين. فتحت له شقيقته الباب، سبقته كالعادة بعدة ساعات حتى توظب المكان وتأخذ احتياجات الأم للمشفى.
- لقد طلبت مني إحضار ألبوم الصور ولكنه في أعلى الأدراج ولم أستطع الوصول إليه.
ابتسمت وأنا أتذكر، شغب الطفولة، رائحة الكعك اللذيذ، تقف على أطراف قدميها محاولة الوصول إليه، جعلتها تصعد على ظهري:
- بسرعة أنت ثقيلة!!
وبدل أن تلتقط قطعة، تزحلقت قدمها وسحبت الصحن، تكسر وتناثر كل ما فيه. يومها كانت والدتي تزور أم مسعود الخياطة لإحضار ملابس العيد. أحضرنا كتاب الوصفات وبدأنا بتحضيرها مجددا وطلبنا من العم سالم صاحب البقالة اشعال الفرن لنا. ابتسم ضاحكا لطلبنا الغريب. دخلت والدتي المنزل وهي متحمسة حتى نجرب ملابس العيد، بعدها قامت بتقطيع الكعكة التي خرجت من الفرن قبل وصولها بعشر دقائق وناولت كل منا قطعة ارتسمت على وجوهنا تعابير الانزعاج، تناولت قطعة هي الأخرى وضحكت بخجل .
- أعتذر يبدو أنني وضعت ملحا بدل السكر!
لاحقا علمت أن زوجة البقال أخبرتها بالقصة، منذ أن كنت طفلا ووالدتي محبوبة من الأهل والجيران. كانت معروفة بأنها الأرملة الجميلة التي تعيش فقط لتربي طفليها بعد وفاة زوجها البطل في حرب الخليج. ولكن هل كانت هذه حقا القصة؟
وأنا أسحب ألبوم الصور وقعت على رأسي مذكرة جلدية، دلكت الجزء المتورم من جبهتي. فتحت ألبوم الصور وكانت أول صورة لزواج والدي. أخبرتني يومها أنها بكت بشدة فلم تكن مستعدة للزواج ولكن الفقر حل بقريتهم ولم يكن هناك حل إلا تزويجها وهي في الرابعة عشر أو ستموت من الجوع برفقة أشقائها وشقيقاتها العشرة. في الصورة كل من والدي وجدتاي وجداي. جدتي لأبي لم تكن سعيدة حتى بزواج ابنها الوحيد، مع أنها هي التي اختارت والدتي!! فتاة صغيرة من قرية بعيدة، لطالما كانت ذلك النوع البغيض الكئيب من البشر، الذين لم تشرق ابتسامة يوما على محياهم.
أتذكر جيدا مدى بغضها لوالدتي، ففي يوم صيفي حينما كان والدي يزرع جهة واحدة فقط ويترك جهة فارغة أخرى طويلة ممتدة تتسع لبقرة، كنت ألعب بالكرة، والدتي تخبز، التقطت جدتي قطعة خبز مضغتها ثم بصقتها على والدتي وركلتها بقدمها ونعقت بكل ما أوتيت من قوة:
- أتسمين هذا خبزا؟ أهدرت ما لدينا من موارد لنأكل هذا على الفطور! أطعميه للحيوانات فهي الوحيدة بجانبك التي ستستمتع بهذا الطعم.
أردت الصراخ، ولكن نظرة من عيناها الشريرتان كفيلة بإخراسي. تساءلت حينها ما هي نكهة الخبز الحقيقية؟ تفاح مثلا!! و لكن القدر جعلها تتدحرج بعد عدة أيام من أمام التل وهي خارجة من السوق، أصيبت بأضرار جسيمة، أُخرس لسانها وتوقف جسدها عن الحركة.
أما والدي الذي إما أنه أحب والدتي بجنون، أم أن الجنون كان متأصلا به، وأنا أظنه الثاني وبكل جدارة. لم يخرج يوما من المنزل إلا وقد أقفل علينا الباب وأطلق الكلاب في حديقة المنزل !! كان الشك يأكل قلبه يوما بعد يوم. حتى أنه اتهم والدتي أن ما في بطنها ليس ابنه، وقالها عني سابقا حتى رأى الشبه العجيب بيني وبين والده الذي توفى قبل مولدي. من تأثير ضرب أبي لها؛ لم تستطع أمي أن تحمل مجددا إلا بعد سبع سنوات!
رفعت المذكرة ورحت أتصفحها، رأيت كلمة الياسمين، كم يبدو اسم والدتي جميلا بهذا الخط القبيح. ومخططات الجزء الترابي من حديقتنا وأنواع النباتات التي ستزرع. أتذكر تلك الليلة تماما، كان القمر هلالا، دخل والدي المنزل ليلا كاللصوص بعد أن ودع الكل صباحا قائلا:
- أنا ذاهب لأداء الواجب، وسأزرع شتلة النخيل وزهور الياسمين بعد عودتي.
وقبلني أنا ووالدتي وبطنها، كنت مستغربا وظننت أنها أكلت بطيخة دفعة واحدة، لذلك أصبح مدورا، ولكن ابن خالتي أخبرني أن هناك أختا لي في الداخل، لم اصدق ذلك فهو كاذب محترف وأنا أعلم ذلك. فبعقلية طفل السبع سنوات ما المنطقي أكثر أن تبتلع والدتي بطيخة وتعلق في معدتها أم أن تبتلع أختا لي؟ فقبل ذلك شرقت بقطعة خبز وسعلت بشدة ناولتني الماء وربتت على ظهري.
- عليك أن تأكل قطعة بحجم فمك، فما زلت صغيرا.
ففهمت حينها أنه حينما أكبر سيكبر فمي معي وسأستطيع أكل بطيخة لوحدي دفعة كاملة!
دخل والدي المنزل وقد أشهر سكينا وقبل أن يقترب من غرفة نومنا، تسللت والدتي خلفه وضربته بالفأس على رأسه . غرق في بركة من الدماء، لا أعلم كيف جاءت أمي بكل هذه القوة، سقط الفأس الثقيل من يدها وهي تحاول كتم شهقاتها ودموعها، ابتل قميصها بكل من الدموع و الدماء. لم تنتبه لي ولا لنظرات جدتي التي كانت تبكي بصمت من خلفها وهي ترى وحيدها غارقا في دمائه. دخلت إلى الغرفة واختبأت في فراشي وانا أحاول التظاهر بالنوم.
سحبته بكل ما أوتيت من قوة، جثته الضخم أكبر مما تقدر على حمله، قطعت جسده بالفأس ووضعته بتلك الحفرة العميقة ثم زرعت فوقه النخل والياسمين، مسحت الأرضية والفأس جيدا وجمعت كل ما لامسه دم من أقمشة.
بعدها صاح الديك، صلت الفجر، وضمتني بشدة إليها وجسدها يرتجف بشدة، أردت حقا أن أقول لها أني أفهم ذلك، أفهمه جيدا. أحرقت ما جمعته في الصباح، شوت معزتنا الوحيدة على نارها، ووزعت لحمها صدقة على الأهل والجيران وقربانا لتنتهي هذه الازمة!! ظن الكل أنها تقصد أزمة الخليج ولكنها قصدت ازمتها الخاصة.
خرجت أنا وشقيقتي من باب المنزل:
- هل تظن أن علينا اقتلاع هذه النخلة القبيحة؟
- لطالما قالت أمي أن الشيء الوحيد الجيد الذي قام به والدي هو إعطاء هذه النخلة حياة. كانت تتحدث اليها بغضب وأحيانا تبكي وتضمها. لا أعلم إن كانت أحبتها أو كرهتها.
- تخيل لها، كأنها أبي أو قبره الذي لم نعرف له مكانا قط .
- ربما.
ركبنا السيارة عائدين للياسمين و فكرت كم أنه غدا سمادا رائعا للنخلة فقد صمدت كل هذه المدة بفضله. منحها قوة وخيارا.
لطيفة الخريجي
Comments