لوحة تستقر على رفٍ تزاحمت به ذرات الغبار، وآثار الحروق، صورة ترتكز على قطعة خشبية تكاد أن تتفتت.
بجوار الدفاتر الخمسة أجلس، كل واحدٍ منهما يروي حكاية تُنعش روحي أسيرة الذكريات، ينهمر الدمع على وجنتيّ وتتبدل ملامحي الخريفية لملامحٍ ربيعية زاهية.
مسحت غيثي بأناملٍ مرتجفة أغلقت الدفاتر وسرت بتوجس خشية استيقاظ والدتي، وعند وصولي لمقبض الباب؛ وقفت أتأمل الغرفة كأني لم أحفظ كل ركنٍ بها.
صور معلقة تحمل ذكريات أمي، لوح مرسومة بيديها الجميلتين، جرامافون على طاولة تبلغ من العمر خمس وعشرين عامًا تحتضن بداخلها إحدى أسطوانات الأغاني المفضلة لديها، ودفاتر مهملة على مكتبها البني المكتظ بالأوراق والأدوية.
منذ صغري اعتدت عند بكائي الاختباء بين أوراق دفاترها الصفراء العتيقة وأتأمل ابتسامتها.. ابتسامة الشمس -كما يطلق جدي عليها- المعلقة على الجدران.. أفتح دفاترها خلسة وأقرأ حروف لا أفهم معناها، أشعر بأن السعادة تحتلّ جسدي فأخرج من الغرفة كما دخلت بهدوء وأستكمل بقية تفاصيل يومي المعتادة.
واليوم رأت عيناي البنيتان رسالة فحواها خناجر لا أحرف، وكل جملة أقرأها يتوسط داخل قلبي خنجر ولم أشعر حينها سوى بحرارةٍ تعتلي الجسد وانقباض عضلات قلبي وتطاير ذرات الأكسجين عنّي، فهممت راكضة نحو غرفة والدتي؛ لأهرب من واقعي لرسائلها القديمة، وذكرياتها التي لم أعشها؛ فأنا اعتدت أن أكون في الخيال دومًا وأرفض الواقع بتفاصيله، أعيش بيني وبين حجرتي وأحرفي المشتتة.
وفي ظهيرة صيف صحراوي يقتل كل شعور.. قرر قلبي أن يقلب الموازين لصالحه وتمرد علي! فشرع أبوابه وفتح حجراته المؤصدة فقُتل! قُتل برصاصةٍ طائشة من هاوٍ ومُحب.. قُتل في ليلة باردة ممطرة تحتضن المشاعر، وتطبطب على الجروح، وتضمد الآلام.
أروى البابطين
Comments