كنت أنا واحدًا منهم، واحدًا من بين الآلاف، لن أقول من الناجين ولكن من الباحثين عن الحياة حينما سمعت هذه الجملة بعد رحلة طويلة ظننت أنني سأغرق في نهايتها، ابتسم شيء ما في داخلي وشيء آخر شمر عن سواعده وقال بكل غضب "من خرج من داره قل مقداره يا حمدي"
"من خرج من داره قل مقداره!!" من القائل؟ من قرر أن الخروج من الدار أو الوطن يقلل من مقدارنا؟ ماذا لو هذه الدار تطردنا بنيرانها ومدافعها وأصوات الحطام؟ تجاهلت مدى طول سواعد الشيء لدرجة أني شعرت بصوت الصفعة التي قدمتها له، مددت يدي ولم يمسك بها أحد كانوا يبادرون للنساء أولًا وشعرت للحظة واحدة ماذا لو كنت حرباء وأتحول في لحظة إلى أنثى بانثناءات فتاكة.. حتى ونحن نازحون غارقون في وحل اليأس لا زال الرجال يلاحقون النساء، وبهذه المناسبة هل النساء اليائسات جذابات حقًا؟ سمعت هذا الإطراء من أحد المنقذين، وعندها كتفت يديَّ رافضًا المساعدة بالرغم من أن لا أحد منهم يعلم بوجودي.
تدافع الجميع باحثًا عن الرمل عن أن يطأوا الثرى حتى ولو لم تكن تربة وطنهم، أما أنا فلاحقت المنقذ صاحب عبارة " لم أكن أعلم أن النساء اليائسات جذابات إلى هذا الحد" وفي الواقع تبعته لأعرف اسمه.. فقط اسمه.. وشعرت لوهلة أنه يدعى فهمي أو لطفي بلا سبب واضح، ولكن ما شد انتباهي في أثناء لحاقي به هو القلعة السوداء القاتمة في طرف الجزيرة.. هل تلك إشارة ربانية حتى أكتشفها؟ شعرت أني مسعور للمشي بلا خوف للاكتشاف للقصص والهدوء بعد تلك الليالي التي قضيتها تحت أصوات المدافع وما تبقى من بنايات.. ليس المميز هو شكل القلعة بالتحديد والذي يوحي بأن قبائلًا من الجن تقيم فيها، بل الطريق الشائك أمامها وموقعها والحراسات المشددة وكأن ما بداخلها كنز، كان قد انتهى اليوم ونمت طويلًا وحلمت كثيرًا كما لو أن الأحلام تكدست وظهرت فجأة ودفعة واحدة حلمت بطفولتي وأمي وصوت مزمار أبي ومؤذن القرية ونعجتي حميدة -بالمناسبة سميتها اشتقاقًا من اسمي ولارتباطها العتيق بروحي وعلى الرغم من ذلك كانت هي آخر أضحية قبل الحرب- لم يفهم أحد لماذا اخترت حميدة في ليلة العيد تلك، فقط شعرت بدبيب الحب يسري في دمي وأن ما بي من مشاعر تفيض لها، لم يكن يعلم أيٌ منهم أن الحب الفائض قاتل ولكني علمت قبلهم واخترت حميدة.
تكلمت كثيرًا ذاهب تمامًا عن مغزى الرسالة في اليوم التالي اعتزمت الاكتشاف وشددت الرحال ولكن قطع رحالي (فهمي) فكانوا ينظموننا كالقطيع في سلسلة لا متناهية من الوجوه الشاحبة لا أحد حر، لا أحد حر في هذا السرب وخاصةً النساء وهذه ضريبة الإطراء.. نبحث عما يشاءون ونصيح بما يطلبون نفعل ما يأمرون به لم يكن أي منهم قادرًا على التقدم خطوة واحدة، الخوف يكبلنا يصيح في حناجرنا ولا مجيب ولا سائل، كنا نتناقص شيئًا فشيئا، يختفي الأفراد واحدًا تلو الآخر وحينها شعرت أني أخوض حربًا أخرى، حربًا خفية وجبانة كل الجبن لتظهر أمامنا.
"حمدي حمدي حمدي" ومع صفعات بباطن قدمه وعصاه استيقظت، رُبطت عيناي ولكن قلبي كان يبصر الطريق كنت أعلم أني ذاهب لذات القلعة، جُرحت في الطريق ودُفعت مرارًا وتكرارًا تعرقلت خوفًا مما لا أراه وصلت وصعدت السلالم وسُجنت في مكان قذر تسللت رائحته إلى أحشائي وليس أنفي فقط، لم أطل البقاء في هذه الغرفة -يبدو أنني فريسة مرغوبة كحميدة – سُحبت كرها -فبالإكراه تظهر القوة- أو هذا ما يعتقدونه هم، فُتحت عيناي وتم تسليمي ورقتان إحداهما بيضاء فارغة والأخرى أوقع عليها وسأوقع حتمًا فتلك مجرد عملية جراحية بسيطة تنص على زرع السعادة رغمًا عن أنف الوصلات المتناثرة والغير منتظمة كعلاج سريع للاكتئاب واليأس أظن أني سأفيد البشرية به، وأما الورقة البيضاء فكتبت بها ما تقرأوه الآن.. لا وصية لدي وغالبًا ستُرمى في البحر الكامن أمام القلعة ولن تقرأها حتى أسماك القرش افتقد الوطن وأمي وحميدة والشجر والطير وطعم الحرية هذا كل ما أود كتابته.
أنا حمدي.. وستنتهك حرمة عقلي في تمام 7 يوليو، نازح مع مرتبة الشرف، وقربان للطب النفسي والحقيقة أن "من خرج من داره لم يقل مقداره، بل عُدم".
مع تحيات: مُحِب حميدة
ميلاد

Comments