top of page
شعار مداد.png

حفيدي وما بعد الخمسين

لطالما كان الريف يسحرني منذ الصغر، وها أنا به، في العطلة الموسمية أقضي وقتي مع أبنائي وأحفادي، في نفس المنزل الذي قد قضيته مع والداي، شعور غريب بأن تكون بالمكان الذي تحبه مع الأشخاص الذي تحبهم في آن واحد، شعور آسر، فقط أتمنى دوامه بعد اعتزالي لمهنة الطيران، أريد فقط قضاء بقية حياتي معهم، لكن بعد ماذا؟ بعد ما انقضت خمسون سنة من عمري بعيداً عنهم، لا بأس المهم أنهم بجواري الآن، وقفت أمام النافذة أرى الطبيعة في أوجّ جمالها، مضاءة بنور الشمس، معطرة بروائح الورد، والبحيرة تعكس صفو السماء، إنه الصباح، إنه العالم الساحر ..

بينما أنا غارق بالتأمل تسلل لسمعي صوت وقوع شيء ما ، يبدو بأنها صادرة من غرفة المكتب الخاصة بي ، توجهت بسرعة لأرى من مستيقظ في الصباح الباكر أيضاً غيري، فتحت الباب برفق لأرى حفيدي الصغير جالسا على الأرض ومن حوله كومة أوراق كثيرة وقبل أن أنطق بدا خائفاً ليقول:

-أعلم بأنه ممنوع علي أن أدلف هذه الغرفة ولن أكررها أبداً لكن من فضلك لا تخبر أمي .

ضحكت بهمس داخل نفسي، يا إلهي هل ابنتي بهذه الشدة لأقول : لا تقلق يونس لن أخبرها أبداً بشرط أن تخبرني ماذا تفعل بغرفة المكتب القديمة هذه؟

أجاب وهو يزيل الغبار من على جسده النحيل ليقول : الفضول .

صحيح كيف لطفل ألّا يكون فضوليا ً ، لأسأله : فضول عن ماذا؟ عن الكتب؟

بدأت نظراته بالتردد قليلاً ليجيب بصوت خفيف : عنك يا جدي ، فأنا لا أراك كثيراً، وأمي تحدثني عنك في بعض الأحيان، لكن أردت أن أعرفك أكثر بطريقة ما فـ..

-فدخلت الغرفة على أمل أن تحصل على إجابات أكثر، هل وجدت شيئًا ؟

وما إن أنهيت حديثي حتى لمحت صندوقا خشبيا صغيرا مفتوحا ورائه، لأسأل بحدة : أين هما يا يونس ؟

ارتعب وأجاب : ماذا .. أتقصد تلك الورقتين؟

تمالكت أعصابي قليلا لأردف : نعم هي، أفترض بأنك قرأتهما .

-أتعدني بأنك لن تغضب مني .

تنهدت لأقول : نعم يا حفيدي أعدك .

لا أعلم ماذا أقول له فهي بمثابة سر لي، ورسالة ندم لأني لم أقم بها، لم أقرأها منذ أن كان عمري عشرون ربيعاً ، ناولني الورقة الأولى لأقرأها وابتدت بـ:

إنني تائه .. على عتبة الحياة .. مشاعر غريبة تحاوطني من كل الجهات .. أريد من يرشدني بها ..

نعم هذه هي نقطة تحول كبيرة لي ، فوالداي قد نصحاني بأن أدرس المحاماة لسبب أجهله لأنني مولع جداً بالطيران، لا أعلم لمَ لا يدعماني بذلك

سأكمل بهذا الطريق، فأنا أثق بقدراتي، وستكون حياتي مليئة بالإنجازات والفخر، لربما لن يدركا ذلك الآن، سيدركانه لاحقاً ..

سأستمر حتى أحلق ، فأنا مكاني بالسماء فعلاً ..

انتهت ، توقفت قليلاً أتأمل كلام ذاك الفتى الشغوف الضائع، كم أرأف له، كم أرأف لنفسي ..

تناولت الورقة الثانية والتي تعتبر كرسالة ورد متأخر على ذلك الفتى قد كتبتها بعد اعتزالي لمهنتي، بدأت أيضاً بـ:

إليك يا عزيزي..

أعلم بأن ردي متأخر، لكن كم أردت أن أخبرك بشيء ما ، ليس كل ما نراه أمامنا قد يكون حقيقيا، لا تثق بكل الآمال ولا تصدق بصدى تلك الأحلام أيضاً ، ثق بي ..

أعلم بأن الذي سيجعلك سعيداً راضياً قد تلقاه في طريق تكرهه أو طريق لا يعني لك شيئاً، أفضل بكثير من طريق قد مهدته أنت بنفسك لتشعر بذلك السرور الزائف، ليس كل ما تأمله وتتصوره سيصبح ما تريده ، ليس تمهيد أول الطريق كنهايته .. يا عزيزي ما كنت أنت بخلفه إلا طيف عابر جامح، ولا يوجد أفضل من أن تتروى وتنتظر الطيف المناسب لك لتتبعه، لا تنجح الأمور بالسعي خلف الأوهام دون اليقين..

آمل أن تبصر الحقيقة قبل أن تغرق في السراب ..

سامحني يا عزيزي ..

انتهت ، مسحت دموعي والتففت لحفيدي لأخبره التالي :

أعلم بأنك تجهل ما حصل لي، لكن لا تنجرف بسرعة وراء كل ما تراه صوابا، تروى واستمع لمن حولك، قبل أن تندم مستقبلاً على لحظات قد فاتتك دون أن تعي ذلك، خذ هاتين الرسالتين معك وعندما تكبر ستدرك ذلك، هذه وصيتي لك ..



طرفة الصوينع

٢٤ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل

مشاعر

تم الأشتراك في القائمة البريدية

  • Twitter

جميع الحقوق محفوظة لمبادرة "مِدَاد" 2020

bottom of page