top of page
شعار مداد.png

الـ..وطن


تعالى صوتُ صراخ الثوار يدوي صداه أرجاء المعمورة وكانت الأرض ملطخةً بالدماء، مكدسةً بالجثث.

في أسفل أحد السراديب وقفت " النور " فوق الكرسي محاولةً الاتكاء على النافذة، كانت تقف على أطراف أصابعها ضحية الجورب الخائن الذي منعته ثقوبه من أن يحميها من خشونة الخشب البالي، نفخت على الزجاج ليولد ضبابًا شجع أصابعها على الرسم عليه. لترسم شخصين طويلي القامة يعانقان شخصًا صغيرًا انتصف بينهما ((أبي وأمي..وأنا)).


((" النور!! ")). صراخٌ من خلفها حتى سحبت من فوق الكرسي لتهبط على عناقِ والدتها الدافئ ((ما الذي تفعلينه؟ ماذا لو رآكِ أحدهم؟؟)). التمست النور الرجفة من صوتِ والدتها التي كانت تعانقها بشدة، حتى أحست "النور" أنها ستدخل لصدر أمها.


((أبي لم يعد بعد..)). لقد غادر والدها المنزل منذ ١٨ ساعة ولم تعتد "النور" على ذلك، كانت الأم خائفةً جدًا على زوجها لأنه لم يغب أكثر من سبع ساعات منذ أن قامت الثورة ضد الاستعمار الغاشم، لكنها تمالكت نفسها وحاولت أن تكبح دموعها وبنبرةٍ يغزوها التصنع ((سيعود بالتأكيد! ما رأيك أن أقرأ لكِ قصة جديدة؟ أحضر والدك عددًا كبيرًا من الكتب بعد نزهة له!)). نزهة هي الوصف التي تستعمله الأم لتصف فيه الرحلات الانتحارية التي يخوضها الأب في كل مرةٍ تنفد فيها المؤنة.


((إذا عزيزتي! أحضري ذلك الكتاب ذا اللون الأحمر أقرأ لكِ إياه..)). وكانت الأم تشير إلى كومةٍ من الأغراض المكدسةِ بشكلٍ فوضوي، ذهبت " النور " وهي تراقص الريح فرحًا حتى وصلت للكتاب وما إن تصفحته حتى صعقت وغمر البؤس ملامحها.


((لا صور له!!)). بنبرةٍ حزينة تمتمت " النور " مخاطبةً أمها التي ضحكت بدورها!

  • الأم: ((حان الوقت لتستعملي ما هو أجمل من الصور.. مخيلتك!)).

  • النور: ((.. مخيلتي؟)).


اتجهت الفتاةُ لوالدتها وقفزت في حجرها، فتحت الأم الصفحة الأولى ولا زالت نظرات الازدراء تكسو وجه "النور".

((يحكى في بلادٍ بعيدة..)). وظلت الأم تقرأ في هذه القصة بينما “النور" كانت تتأمل الكلمات العشوائية لتلحظ شيئًا: ((أمي!!)). توقفت الأم عن القراءة وباستغرابٍ: ((ماذا بكِ يا عزيزتي؟)). أشرت "النور" لكلماتٍ عشوائية مثل: "المنزل، الدراجة، الفطيرة، التاج.. ". وقالت: ((كل هذه الكلمات تقلد اسمي، لماذا؟)). وبدأت تتذكر " النور "العام الماضي حينما علمتها أمها كيف تكتب اسمها ((ابدئي الكتابة هكذا "ال" عصًا ومغرفة ثم "نور".)). ضحكت الأم ثم قبلت جبين فتاتها وقالت: ((هذه تسمى ال التعريف! وهي ك.. ك.. التاج! الذي تضعه الأميرات! يضفي للكلمة رونقًا أجمل وحينما تدخلين المدرسة ستتعلمين أكثر عنه!)). فرحت " النور "حينما سمعت تشبيه والدتها حول كونه التاج! ((إذا اسمي يرتدي تاجًا؟)).


في هذه الاثناء سمعت الأم طرقًا بسيطًا على الباب وقفزت فرحًا: ((لقد جاء!)). فتح الباب وعلمت "النور" حينها أن والدها قد أتى فالبهجة دومًا تدخل قلبها مع ذلك الباب.


غطت وجهه ابتسامة كبيرة وكان يحمل بيديه عددًا كبيرًا من الأكياس، ما إن رأى زوجته حتى أسقط الأكياس وعانقها بشدة لتأتي لهم "النور" وتعانق هي الأخرى مجسدةً رسمتها على الزجاج. ((.. لقد خرج المستعمر أخيرًا..)). ذهلت الزوجة أثر الخبر وانهالت على الأرض ساجدةً حامدةً! ((لقد تأخرت لأنني زرت العاصمة! تبدو غريبةً جدًا عما اعتدنا عليه ولكن الثوار الأشداء قد حاربوا ببسالة طاردين الخنازير من وطننا!)). نظرت إليه والدموع تكسو وجنتيها وتمتمت: ((.. الوطن أصبح حرًا؟)). كانت كلمةُ وطن تداعب مسامع " النور " التي كانت تراقب بخوفٍ الاضطراب المشاعري الذي يخوضه والديها، لكنها استطاعت استشعار السعادة منهم وبفضول تساءلت: ((ما هو الوطن يا أمي ؟..)).


  • ((الوطن يا عزيزتي هو المكان الذي تألف له روحكِ والذي يشعرك وجودك به بالأمان..)).


فاحت رائحة الفول أرجاء المكان وجهزت "النور" المائدة لها ولأبيها: ((فتاتي الجميلة!)). كان والدها يمسح على خدها وبالرغم من خشونة يديه إلا أن "النور" لا توده أن ينفك عن ذلك، ساعدها في تحضير المائدة وجلسوا أرضًا، في منتصف جلستهم كانت "النور" و على يمينها أبيها وعلى شمالها أمها، قطع الأب من الخبز قطعةً بحجم الكف وسلمها "النور" كان الخبز منتفخًا تتوسطه بقعٌ سوداء من أثر الفرن ولكنه كان وجبة "النور" المفضلة ودفؤه وطراوةُ ملمسه كانت تبهجها حبًا. وضعت الأمُ طبق الفول في منتصف المائدة وكان دخان حرارتهِ يراقص الهواء، قطع الأب من خبزته وظل يغمس بالفول وشاركته الأم أيضًا، ظلت "النور" تفتت في خبزتها وتنظر إليهم، حتى لاحظ الأب وأعطاها من الفول بعد أن نفخ عليه بحنان. غمرت السعادة وجه "النور" للذة الفول ولتذكرها ما أخبرها والدها يومًا حينما قال: ((نحنُ نأكل من الصحن ذاته ونتشارك قطعة الخبز نفسها لأننا شخصٌ واحد!..)).


دارت أحاديثٌ كثيرة بين والديها ولكنها لم تفهم شيئًا؛ لكن التماسها للسعادة من الحوار بينهما أشعرها بالطمأنينة.

نهضوا عن المائدةِ وساعدت النور والديها في توظيب المائدة: ((أتعلمين يا "النور"!..)). أمسك الأب بفتاته وأردف: ((في القريب جدًا سنخرج من هذا المكان البشع وسترين الشمس أخيرًا!)).

  • ((حقًا أبي!)). بفرحٍ وابتسامةٍ ثم عناق.

وظبت الأغراض بنجاح وأحاطت الكراتين الرثة والأقمشة المحملةَ بالأغراض "النور".

قدم لـ"النور" صندوقًا صغيرًا واحدًا، لتحمل فيه ما تشاء وكان يكفي لدميتها بعد إقحامٍ وفراغٍ واحدٍ. اختارت أن تضع فيه آخر كتابٍ قرأته ووالدتها وخرجوا من ذلك المكان، كانت "النور" متلهفة لترى الشمس أخيرًا وحتى لامس وجهها النور بدأت تتفحص المكان أكثر! فهي لا تتذكر من الخارج شيئًا عدا ومضات ومشاهدٍ رسمتها مخيلتها لها من قصص والديها وكانت تتفحصُ الأماكن، كان المتطوعين من سكان الأرض قد حرصوا على تنظيفها من الجثث والدماء ولكن ترميم المنازل والأبنية كان يأخذ وقتًا أطول، لتكون أول صورةً تترك بطبعتها على سفح ذاكرة "النور" عن المدينةِ أنها كومةٌ من الحطام.


قبض والدها على يدها حينما مر بجانب عسكرٍ كانوا من البلاد نفسها؛ ولكن الحرب قد تركت أثرها عليهم حتى أصبحت البذل المنقطةُ بالأخضر رعبًا وإن كانوا يحملون الولاء نفسه.


لمحت "النور" كتابةً على أحد الجدران وصرخت ((أمي انظري! إنهم يكتبون القصص على الجدران أيضًا! ولقد استعملوا تاج الكلمات أيضًا..)). نظرت الأم إلى الجدار لتهلع مزيحةً أعين ابنتها عما كتب "الـ &$@# يا وطن .".

((.. لا تعيري لذلك بالًا يا صغيرتي وليس كل ما كتب يعني قصةً! أتعلمين أننا نستعمل الكلمات لوصف الشوارع والطرق والمحلات، وأغلبها متوجةٌ بـ تاج الكلمة!..)). فرحت "النور" وتلهفت جدًا أن ترى ما تتحدث عنه والدتها، استمر الطريق الطويل لساعات، وكان أكثر ما تلهفت له "النور" هو الذهاب إلى المدرسة لكي تقرأ لأمها وأن تتقن كتابة شاسمها وأن تستعمل تاج الكلمة.


((لقد وصلنا!!!)). صرخ الأب فرحًا حينما وصلوا إلى بوابة العاصمة وسقطت الأم ساجدةً امتنانًا، وما إن خطت "النور" أول خطواتها على أرض المدينة حتى صعقت! فوجدت اللوحات التي تتحدثُ عنها والدتها تملأ أرجاء المكان، فوق المحلات وفي أول الأرصفة ولكنها كلها تحمل شكلًا غريبًا بشعًا، لم تكنٌ أيٌ من الحروف التي تراها في حضن أمها موجودًا وكل ما كان موجودًا هو حروفٌ غربيةٌ قوقازية. حاولت البحث عن تاج الكلمات فلم تجده وأحست بانكسار مرير.


وصلوا إلى المنزل ولم يكن منزلًا للـ"النور" بل كان باردًا ومكتظًا بالغرف،كان والدها على عكسها فرح جدًا.

((حان وقت الطعام!..)). بكل تلك الغربة أخيرًا حينما قالت الأم هذه الجملة شعرت "النور" أخيرًا بالانتماء، جلسوا على طاولةٍ أبعدتهم عن بعضهم البعض ولكن “النور" تناست هذا التفصيل الشنيع وظل أنفها يراقص رائحة الفول الشهية وهنا كانت الطامة! لقد وزعت الأم ثلاثة صحونٌ وكل صحنٍ رافقته ملعقة، وبدأت تسكب الفول لكل واحد منهم! وبدلًا من الخبز الدائري المنتفخ قُدم لها خبزٌ طويلٌ قاسٍ كقسوة ما حدث، ومرت الأيام ليصبح اسم "النور".. "نور" وفي كل يومٍ يمر تشتاق أكثر إلى موطنها.


عبدالله السبيعي



٢٧ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل

مشاعر

bottom of page