top of page
شعار مداد.png

الملك

تاريخ التحديث: ٢ يونيو ٢٠٢٢

-"انتشروا يا رجال، تحققوا من كلِّ رأسٍ تجدونه. من يجدُ الملكَ أولًا فلَهُ نصفُ الغنيمة".


صاحَ الفارسُ بعدَ أنْ لوَّحَ بسيفِه المُلَطَّخِ بعيدًا عن جسدِه، ليهيجَ الجنودُ خلفَهُ كالنارِ في الهشيمِ على أرضِ المعرَكَة. حيثُ اختلطتْ بالفعلِ آلافٌ من جثثِ البشرِ والخيولِ سويًا، لم يتركوا خلفَهُم سوى بعضَ الأعلامِ التي غُرِسَتْ في الأرضِ المُشْبَعَةِ بالدماءِ وأخرى اخْتَرَقَتْ أجسادًا بعد نقصٍ في الرماح، لتبدو كأشباهِ موتى بوقفاتِها المائلةِ وقماشِها الممزقِ والملوثِ هو الآخرُ بالدمِ والعرقِ وربما الدموع.


الأتربةُ المثارةُ بفعلِ حوافرِ الأحصنةِ ما زالت تجولُ في الأفقِ كأنها ضباب. رؤوسُ السهامِ وحدودُ السيوفِ أخذت تُشِعُ كأنها نجومٌ في كلِّ مرَّةٍ تُفْسِحُ السُحُبُ الرعديةُ المجالَ للبدر.


سارَ الفارسُ بخيلِه بين الأشلاءِ يُقَلِّبُ بسيفِهِ الطويلِ الجثامينَ أسفلَهُ متفحصًا.

-"ليس هنا...".

همسَ بغصَّةٍ ومزيدٌ من القلقِ ينكبُ على صدرِه زيادةً على ما لديهِ من هموم.

"مولاي... مولاي أين أنت؟".


تمتمَ ومئة هاجسٍ يجتاحُ عقلَه، حتى أنه لم يشعرْ بوابلِ المطرِ الذي بدأَ يضربُهُم. تمنى ألا يكون قد وقعَ أسيرًا، ستكون تلك ضربةً موجعة؛ وخاصة، أنَّ العدوَ لن يتهاونَ أبدًا عن إذلالِهم. والأهم، تمنى ألا مكروهَ قد أصابَه، بلا ملكٍ أو وريثٍ للعرش، وضعُ المملكةِ لن يحتمل.


ظلَّ غارقًا للحظةِ في سريرتِه، قبل أن يفيقَ على صوتِ بوقٍ ضجَّ من بعيدٍ واختلطَ مع هزيمِ السماء، أتبعَهُ صراخ:

-"وجدنا مولاي الملك... وجدنا مولاي الملك!".


جعلَ يكررُ الجملةَ مرارًا كإعلانٍ أوقفَ عمليةَ البحث، لتعودَ الحياةُ للفارسِ الشاب، فيضربُ بالرِّكابِ خاصرةَ خيلِه وتصهلُ الأخيرةُ واقفةً على قوائِمِها الخلفيةِ استعدادًا للعدو.


وما أن وصلَ الفارسُ للمكانِ بسرعةٍ جمة، حتى هتفَ ساحبًا الصراعَ موقفًا الخيل، وقفزَ على عُجَالَةٍ لتندثرَ أقدامُهُ قليلًا في أرضيةِ الطينِ والحشائشِ أسفلَه، ليقتربَ من جمعِ الجنودِ الموجودين هناك، فيفسحوا له المجال، ويتوقف.


كانت قبضَتُهُ المرتخيةُ تحملُهَا الحشائشُ برفق. يحاولُ الهَتَّانُ شَطْفَ تَفَاصِيلِهَا المُلَوَّثَةَ بمزيجِ دمائِه ودماءِ العدوِ والغبار. استقر في حضنِ الكفِ مقبضُ سيفٍ أسود، بدا في التصميمِ كسيفِ سيدِه تمامًا. جلدُ زاحفٍ أدهمٍ تتضحُ قوتُه من هذِه المتانة، دُبِغَ بقوةٍ. طُرقَت في آخرِ المقبضِ وأوله ثلاثُة مساميرَ فولاذيةٍ سميكةٍ ذاتِ رأسٍ أملسٍ لامعٍ تُثَبِتُ نَصْلَ السيفِ فيه. كانَ هوَ الآخرُ أخذَ نصيبَهُ منِ الدِمِاء.


هذا السيفُ ليسَ لأحدٍ سواه؛ بَهُتَتَ ملامحُ الفارسِ وتسارعت نبضاتُ قلبِه مُتَوَجِسًا شرًا، ليخطفَ مِشْعلًا كان يحمِلُهُ جنديٌ على مقربةٍ وبحركةٍ خاطفةٍ قرَّبَهُ للمدرعِ الملقَى على الأرضِ بين الجثثِ صارخًا: "مولا-".


انقطعت جملتُه مُرْتاعًا، وتوقفتْ أنْفَاسُه لوهلَةٍ؛ فما يراهُ أمامَهُ ليسَ المَلِك. فقط جثمانٌ بلا جمجمة. لبثَ محلهُ مشدوهًا، وقبل أن تنالَ منه الصدمةُ رمى المشعلَ بعيدًا وهرعَ نحوهُ متفحصًا. بلا رأس، لا السيفُ ولا الملابسُ تعني بالضرورةِ أنه الملك.


قَلَبَ الجثةَ ليَفُكَ الدرعَ عن صدرِها ويشقَ الملابسِ تباعًا، لتسقطَ الملامحُ أرضًا ويُشَلَّ الجسد، إنها هناك. ندوبُ معاركِه السابقةِ في سبيلِ المملكة.


جالت عيناهُ بين الندوبِ غيرَ مصدق، ليفورَ الدمُ في العروقِ مفجرًا ألمًا في صدرِه فاقَ إصاباتِه جميعَها وبصوتً متهدجً ساحقًا الأرضَ بقبضتِه، أعلنَ الهزيمة: -"سقطت الدولة...".


بقلم الكاتبة: روان الفار



للاستماع:

٩ مشاهدات

أحدث منشورات

عرض الكل

مشاعر

bottom of page