top of page
شعار مداد.png

منزل عائلة هوا

الصين، عام ٤٢٩م.


عسعس الليل، ولم تهدأ عينيها، غزت المخاوف روحها، قلقًا على أبيها، إن رحل ليقاتل في الحرب التي شنتها قبائل الهون فلا مفر من خلاصِه، ولا رجعة له.


وبعد تفكيرٍ يشج الرأس وأفكارٍ ترهق البال، عزمت أمرها، ومضيت قُدما لتحل محل أبيها في الحرب،


هرعت لتستعير سيف أبيها فانعكس بريق عينيها الحازمتين مبددًا مخاوفها، وبقدم محاربٍ جسور أيْهَم اقتادت الحصان وخطت خارج المنزل ميممةً وجهتها للالتحاق بالجيش.


وبعد مسيرةٍ طال بُعدها مشقة ثلاثة أيام:


اتسعت عينيها عند وصولها من هول المنظر، كان عدد الخيام يفوق مئات الآلاف، حتى أنّ تسجيل المجندين أخذ عدة أيام لعددهم الهائل..


كان المكان موحشًا، قاتما، وفي منتصف الليل فز الجميع مرتعبين من صرخات مربكة وحينما خرجوا فإذا بدب ينقض على مستشار الإمبراطور، ارتعب البعض والبعض الآخر استجمع قواه ليغلبوه، فنفضهم أرضًا واحدًا تلو الآخر، وبصرامة تداركت مولان الأمر وغرزت الرمح في صدره فتردى مترنحًا.


وبعد لحظة صمت هتف الجميع فرحين فخورين بهذا المقاتل الأيهم المغوار الذي خلصهم من دب وحشيٍ مسعور.

وبذلك لم تعد مولان بعد الآن بل لُقبت بـ أيْهَم. وجزاءً لرباطة جأش أيهم، عُيِّنَ قائدًا لجيش المعركة.


كانت الأيام ذات مناظر مليئة برهبة منظر الجيش وتعالي أصوات الوغى، وبالدماء المتناثرة والرقاب المتطايرة.


طال الوقت من أيام إلى شهور ومن شهور إلى سنين، لكنّ مهابة مناظر المعارك في كل مرة تبدو وكأنها أول مرة من هولها، فقدَ أيهم من جنوده ما يعد ولا يُحصى، ومن أصدقاءه والعزيزين عليه ما يفجع قلبه في كل مرة، متمالكًا كل ذلك، آملًا بالعودة إلى دياره حاملًا البشائر إلى أبيه.


وبعد اثنتي عشر عامًا، بدأت النهاية..


آخر معركة دامية للحرب كانت متلاحمةً هاشمة، بين أيهم وقائد الهون الإمبراطور خان، اشتدت هيقعة السيوف وعلت حدة صوتها، وتأججت الحرب إلى أن خاب أمل الجنود وبلغهم اليأس، وقنطوا وسادت على وجيههم الشك والريبة في نصرهم، إلا أنّ أيهم ظلّ يتصور أبيه في ذهنه فتشتد همته، وتتضاءل مشقته ويتضاعف تطلعه. وبعد خيبةٍ وانهزام مؤكدين أنير وميض أمل أشرق روحهم وزاد من همتهم، فصاحت هفوات النصر والتشجيع، فتغلبوا عليهم وفازوا المعركة وانتصروا بالحرب.


لم يخرج أيهم من هذه المعركة سليمًا، أصابه جُرحٌ مُقَصّع تسيل منه الدماء.. لم يتبق حينها العديد ممن يزاولون الجرحى، فاعتنى به المستشار ليداوي جرحه في خيمة منعزلة، وصُدم بما لم يعرف عنه طيلة ذلك الوقت! أنهى تطهير جرحه، ثم أخبر أيهم أنه سيفشي عن سره غدًا عند رجوعهم للإمبراطور ليقيموا عليه الحد.


وبعد ليلةٍ حالكة الدجى، ليلةٍ لم تسكُن روحه، ولم يهدأ باله، ولم يغمض فيها جفنيه، أذعن نهايته خائرًا جاهلا الغيب وما يُخفي القدر عنه. ومع انبلاج فجر النصر المنتظَر طيلة السنين الماضية، سادت شائعة أن المستشار قد فاظت نفسه، وأنه قد مات في سريره فجأة دون علة.


فشعر أيهم أنه قد كُتب له عمر آخر، وبُثّ فيه حياة جديدة، فقد عاد سره في كتمان وأمان مرةً أخرى، لن يُغدر به أو يُفشى أمره بعد الآن. وبين لحظة وأخرى، يغلبه تأنيب الضمير، ويكسو عاليهُ الندم والتحسر على عدم أمانته وصدقه ، فأصبح حاله مذبذبًا بين ذلك وبين حماس روحه وانشراح صدره للقيا أبيه الذي طال انتظارُه.


وعند وصول الجيش وبين تراحيب الأهالي والشعب للمحاربين الجسورين، انطلق أيهم عائدًا لمنزله، فإذا بأمه مع رجل آخر في منزلهم، لم يقوَ على التفوه بحرف، رحبت به أمه بدموع فرح غير مصدقةٍ ما تراه..


وبعدها قالت أن هناك أمرٌ يجدر بهما أن يتناقشاه الآن، فأخبرت أيهم عن انقلاب حال أبيه عند ذهابه، وأنه عض أصابع الندم بسبب آخر لقاء لهما كان مليئًا بجدال حاد، وأصوات علت دون قصد، وألفاظ لم تُعنى، ثم أردفت: كان أبوك ترحًا مكسورا، عاش في أسى، حتى أمرضه بَثُّه وحزنه، إلى أن فاضت نفسه من كل علة شكاها حاله، ثم قالت أنه لم يتحدث كثيرًا آن ذاك، إلا أنه ردد عبارة بتحسر وسدم: "تمنيت لو ذهبتُ أنا، فقد بلغت من العمر عتيا، تمنيت لو عاشت شبابها بأفضل حال، هي انتصاراتي فلا رغبة لي بشيء غيرها". انهمرت دموع أيهم..

ثم ولى، بلا تفكير، وجد نفسه هاربًا من كل شيء حتى من نفسه، لم يعد يخش شيئًا، أخذ ما تبقى من روحه مُيممًا البحر، بلا وجهة محددة، أخذ يسبح ويسبح دون وعي، جُلّ ما أراده أن يتخلص من هذا الشعور، الذي بات يحمله كندبة طُعِن به قلبه، رُغم عمق آلام صدره، لم يقوَ على الصراخ، أذعن للألم صامتًا، ليمزقه ببطء، ما عاد كتفاه يطيقان الثبوت، خارت قواه، فما تسنى له المضي، إلى أن توقف جسده عن مقاومة الماء، وارتفع جسده يطفو، معلنًا انسحابه.


أروى



١٥ مشاهدة

أحدث منشورات

عرض الكل

مشاعر

bottom of page